للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه، وإن لم يتب؛ لأنَّه من تمام [حده] (١)، [أو أنَّه] (٢) بعد إقامة الحد، وهو أنَّ [بإقامة] (٣) الحد يصير محكوماً بكذبه والمتهم بالكذب لا شهادة له، فالمحكوم/ بالكذب أولى». كذا في المبسوط (٤).

فإن قلت: هذا الذي ذكرته وإن دلَّ على ردِّ شهادة المحدود في القذف، فعند الخصم دليل على أنَّ شهادته مقبولةٌ عند التوبة.

وذلك لأنَّ قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (٥)، استثناء عقيب الجمل المنسوقة، والاستثناء متى يعقب كلمات منسوقاً بعضها على البعض ينصرف إلى جميع ما تقدم، كقول القائل: امرأته طالق، وعبده حرٌ، وعليه حجَّةٌ، إلا أن يدخل الدار فهو [ينصرف] (٦) إلى جميع ما تقدم (٧).

ولأن القذف منه افتراءٌ على عبد من عباد الله تعالى، فلا يكون أعظم من افترائه على الله تعالى، وهو الكفر، وذلك لا يوجب رد الشَّهادة على التأبيد؛ بل إذا تاب وأسلم تقبل شهادته؛ ولأنَّه نسبة الغير إلى الزنا، فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنا، وذلك لا يوجب رد الشَّهادة على التَّأبيد، فهذا أولى (٨).

ولأنَّه إذا تاب قبل إقامة الحد تُقبل شهادته بالاتفاق، ولا جائز أن يكون الموجب لرد الشَّهادة إقامة الحد عليه؛ لوجهين (٩).

أحدهما: أنَّ ذلك فعل الغير [به] (١٠) بغير اختياره، وفعل الغير في حقِّه لا يصلح سبباً لرد شهادته، كما في سائر الحدود.

والثَّاني: [أنًّه] (١١) يطهر بإقامة الحد عليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهلِهَا» (١٢).


(١) في «س»: [الحد].
(٢) في «ج»: [وأوانه].
(٣) في «ج»: [إقامة].
(٤) المبسوط (١٦/ ١٢٨).
(٥) سورة البقرة: آية ١٦٠.
(٦) في «س»: [منصرف].
(٧) ينظر: المبسوط (١٦/ ١٢٥).
(٨) ينظر: المبسوط (١٦/ ١٢٦).
(٩) ينظر: المبسوط (١٦/ ١٢٦).
(١٠) في «ج»: [في حق الغير به].
(١١) في «ج»: [أن له].
(١٢) لم أقف على حديث مسند بهذا اللفظ، وقريب منه ما أخرجه: الحاكم في المستدرك (١/ ٩٢)، رقم (١٠٤)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أدري تبع أنبياً كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنبياً كان أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟»، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٥/ ٢٥١)، رقم (٢٢١٧).
إلا أن الحديث له شاهد في الصحيحين، عن عبادة بن الصامت، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مجلس، فقال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه».
أخرجه: البخاري في صحيحه (١/ ١٢)، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، رقم (١٨)، ومسلم (٣/ ١٣٣٣)، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم (١٧٠٩).
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (٣/ ٢٨٩): «وأجيب عنه بأنَّه علم ذلك بعد أن كان لا يعلمه، فإمَّا أن يكون أبو هريرة أرسله، وإما أن يكون حديث عبادة متأخراً».