للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمَّا في حقوق العباد فلسماع الشَّهادة تقدم الدَّعوى عند القاضي شرط؛ لأنَّ القاضي إنما نُصِّب لفصل الخصومة، فلابد لفصل الخصومة من الخصومة، وهي الدَّعوى.

وفصله بعد ذلك يفتقر إلى شيئين، وهما الشَّهادة واليمين، فكانت الشَّهادة مستدعية لسبق الدَّعوى من هذا الوجه (١).

«وانعدمت فيما يخالفها»؛ أي: الدَّعوى فيما يخالفها؛ لأنَّ الشَّهادة لأجل تصديق الدَّعوى، فإذا خالفتها فقد كذبتها، والدَّعوى الكاذبة وجودها كعدمها (٢).

ثم إنَّما اعتبرنا صدق الشَّاهد لا صدق المدَّعى حتى أعدمنا دعوى المدَّعى لمخالفة الشَّهادة؛ لأنَّ الأصل في الشُّهود العدول، خصوصاً على قول أبي يوسف ومحمد [رحمهما الله] (٣)، ولا يشترط عدالة المدَّعى بصحة دعواه رجحنا جانب الشُّهود عملاً بالأصل (٤).

وذكر في الذَّخيرة: ثم كما يُشترط الموافقة بين الدَّعوى والشَّهادة، ويشترط الموافقة بين الشَّاهدين أيضاً؛ لأنَّ القضاء إنَّما يجوز بالحجَّة والحجَّة شهادة المثنى، وبدون الحجة [لا] (٥) يقطع الحكم.

وإذا ثبت أنَّ الموافقة شرط كانت المخالفة مانعة للقبول، فبعد ذلك نقول: إن كانت المخالفة بينهما في اللفظ بدون المخالفة في المعنى تقبل شهادته، وذلك نحو أنْ يشهد أحدهما على الهبة، والآخر على العطية، وهذا لأنَّ نفس اللفظ ليس بمقصود في الشَّهادة؛ بل المقصود ما تضمنه اللفظ، وهو ما صار اللفظ على من عليه، فإذا وجدت الموافقة في ذلك لا تضر المخالفة فيما سواها (٦).

فإذا ثبت هذا جئنا إلى مسألة الكتاب: «فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين» (٧)؛ أي: في الدين، أمَّا إذا كان في البيع، أو في الكتابة والدَّعوى من العبد، فلا تقبل في شيء أصلاً بالاتفاق على ما يُذكر.

«ولأبي حنيفة - رحمه الله - (٨): أنَّهما اختلفا لفظاً، وذلك يدل على اختلاف المعنى» (٩).

«ألا ترى أنَّ قولك زيد غير قولك زياد، وكذلك نصر وناصر، وكذلك الألف والألفين، وإذا ثبت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد، فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف وخمسمائة، فإنَّهما اسمان، أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظاً ومعناً.


(١) ينظر: تبيين الحقائق (٤/ ٢٢٩).
(٢) ينظر: العناية شرح الهداية (٧/ ٤٣٣)، تبيين الحقائق (٤/ ٢٢٩).
(٣) سقط من: «س».
(٤) ينظر: البناية شرح الهداية (٩/ ١٦٧).
(٥) سقط من: «س».
(٦) المحيط البرهاني (٨/ ٤٦٧).
(٧) الهداية (٣/ ١٢٦).
(٨) في «س»: -رضي الله عنه-.
(٩) الهداية (٣/ ١٢٦).