للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولهذا قلنا: أنّ الرجل إذا ادّعى نصف دار على إنسان فأنكر الْمُدَّعَى عليه يقضي فيه بالنكول وهبة نصف الدار شائعا لا يصح؛ لأن هبة المشاع فيما يُستطاع فيه القسمة لا تجوز علم أن تفسير البذل ما قلنا كذا في الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ (١)؛ لأن معه لا يبقى اليمين أي: مع البذل لا يبقى اليمين علم أن النكول بذل؛ لأنّ اليمين تجب إذا كانت الخصومة باقية وبالبذل لا يبقى الخصومة فلا تكون اليمين واجبة فإن قيل هذا المعنى مشترك وهو أنَّ اليمين كما لا تبقى مع البذل كذلك لا تبقى مع الإقرار فلو جعل أبو حَنِيفَةَ -رحمه الله- عدم بقاء اليمين مع البذل دليلاً على أنّ النكول بذل كان لهما أن يجعلا عدم بقاء اليمين مع الإقرار دليلاً على أن النكول إقرار فما وجه ترجيح مذهب أَبِي حَنِيفَةَ -رحمه الله- في هذا التعليل.

قلنا: لما كان كذلك كان جعل النكول دليلاً على البذل أولى من جعله دليلاً على الإقرار؛ وذلك لأنّه لو كان إقراراً يكون الْمُدَّعَى عليه مناقضاً لكلامه الأوّل؛ لأنّه أنكر مرّة ثُمَّ لو جعل نكوله إقراراً كان كلامه متناقضاً والصون عن التناقض واجب.

وما ذكره في الْأَسْرَار (٢) من التعليل لأَبِي حَنِيفَةَ -رحمه الله- أولى مما ذكره في الْكِتَابِ (٣) لعدم ورود صورة التناقض وقال لأَبِي حَنِيفَةَ -رحمه الله- أن هذه حقوق لا يستباح تناولها بالإذن ابتداء فلا يُقضى بها بالنكول قياساً على القصاص في النفس وعلى عكسه الأموال وتفسير هذا الكلام أن رجلاً لو قال للقاضي: أنا حر ولكن هذا الرجل يؤذيني بالدَّعْوَى فأبحت له أن يسترقني لم يحل وكذلك لو قال: أنا ابن فلان ولكن هذا يؤذيني بالدَّعْوَى/ فأبحت له أن يدّعيني وكذلك إذا قال: لست بموليّ له وأنا حر الأصل أو معتق فلان لكن أبحت لهذا لم يثبت بالإباحة وكذلك المرأة إذا قالت: أنا لست بامرأة له ولكن أبحت له الإمساك بالنكاح ولو قال: هذا المال ليس له ولكن أبحت له تناوله حلّ وكذلك لو قال: بإزاء ما أدعى جاز وكان صلحا على الإنكار وكذلك إذا قال: لم أوكله بما فعل ولكن أذنت للحال وكذلك كل ما جعل للمنكر أن يثبته بإذنه فهذا تفسير هذا الكلام هو أن كلّ محلّ يقبل الإباحة بالإذن ابتداء من قبله قضى عليه بنكوله وما لا فلا وكان هذا أولى من أن يجعله إقراراً؛ لأنّ الخصومة كما تنقطع بالإقرار تنقطع بالبذل والتمليك بلا إقرار كما تنقطع الخصومة بالصلح على الإنكار وهو تمليك بدل الأصل فثبت أنّه جائز في الأصل مثله.


(١) يُنْظَر: البحر الرائق (٧/ ٢٠٧).
(٢) يُنْظَر: المبسوط؛ للسرخسي (٥/ ٦)، المحيط البرهاني (٨/ ٧٥٦).
(٣) المقصود بالكتاب هنا الجامع الصغير؛ لمحمد بن الحسن الشيباني يُنْظَر: (ص: ٣٨٩)