للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقلنا: بالبذل الذي هو عبارة عن ترك المنازعة لكون العمل بالبذل عملاً بأدنى الأمرين وكون البذل أقرب إلى الإنكار الذي سبق منه أولاً لأنّ الكلام فيه فحينئذ يبقى هو محق في إنكاره ويحلّ الأخذ للمدعي بدعواه التي هي حق عنده.

وأما لو جعلنا النكول إقراراً كنا جعلنا المنكر كاذباً في حقه فإن قيل لو كان هذا بذلاً مبتدأ كالهبة من قبل المقضي عليه كما في الصلح على الإنكار لقيل إذا استحق ما أدّى بقضاء لا يضمن شيئاً آخر كما لو صولح (١) على إنكار فاستحق بدل الصلح فإنّه لا يضمن شيئاً ولكن المُدَّعِي يرجع إلى الدَّعْوَى.

قلنا: لأنّ بدل الصلح وجب بالعقد فإذا استحق بطل العقد فعاد الحكم إلى الأصل وهو الدَّعْوَى فأمّا هاهنا فالمدّعي يقول أنا آخذ هذا بإزاء ما وجب لي عليه في ذمته بالقضاء فإذا استحق رجعت بما في الذمة، فإن قيل ما لا يجاب في الذمة ابتداء لا يصح.

قلنا: بل يصح كما في الكفالة والحوالة فالذمة تقبل الشغل بالدين والحقوق بسبب صحيح كالحوالة وكذلك بالمداينات فإن قيل وجوب الحكم على القاضي بالنكول دليل على أنّه إقرار لا بذل؛ لأن البذل يبيح الأخذ للمدعي ولكن لا يلزم القاضي أن يقضي به كالصلح على الإنكار.

قلنا: إذا كان البذل [هو] (٢) صريحًا فهو بذل من العبد فلا يلزم القاضي.

وأمّا إذا كان نكولاً فهو بذل بحكم الشرع لما أن المدّعي يستحق ما ادّعاه بنفس الدَّعْوَى لولا منازعة المنكر بيده أو بذمته والْمُدَّعَى عليه أبطله بالمنازعة والشرع أبطله إلى اليمين ثُمَّ لما منع المنكر اليمين عاد الأمر إلى الأصل بحكم الشرع فيلزم القاضي قطع منازعته والتمكين منه بالقضاء بالأصل؛ لأنّه لا يمكنه استيفاؤه منه جبراً فانتقل بحكم الشرع إلى الأصل فإن قيل يشكل هذا بالعبد المأذون فإنه يقضي عليه بالنكول وكذلك الصبي المأذون وبذلهما باطل.

قلنا: إنا عللنا لبيان المحال التي تستحق بالبذل ابتداء والتي لا تُستحق، ولم نعلل لبيان الباذلين وعدم صحة البذل هناك إنَّما نشاء من عدم أهلية الباذل لا من المبذول على أنّ المأذون فيهما يصح بذله بقدر ما دخل تحت الإذن من الإطعام و [إلا] (٣) هذا المأكول والإعارة ونحوها، والبذل بالنكول مما دخل تحت الإذن فإنَّه يستحلف بالخصومات ويقبل نكوله فإن قيل يقضي بالقصاص في الأطراف بالنكول ولا يعمل فيها البذل.

قلنا: البذل عامل إذا كان مفيدًا نحو أن يقول لآخر أقطع يدي وبها آكلة فقطعها حلّ ولم يأثم وبغير إذنه يأثم ولا يحلّ وفيما نحن فيه النكول مفيد؛ لأنّه يحترز به عن اليمين وله ولاية الاحتراز عن اليمين فإن كان صادقاً فأمّا إذا قال: جزافاً اقطع يدي فلا يحلّ له؛ لأنّه لا فائدة فيه بل فيه ضرر محض هذا كله مما أشار إليه في الْأَسْرَار إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة فيملكه المكاتب والعبد المأذون هذا جواب إشكال تقديري على ما ذكرنا الإشكال من الْأَسْرَار (٤) وهو أن النكول إذا كان بذلاً ينبغي أن لا يملكه المكاتب والمأذون لما أنَّ في البذل معنى التبرع وهما لا يملكان التبرع فقال في جوابه أنّهما يملكان لما لابدّ له من التجارة كما في الضيافة اليسيرة (٥) وبذلهما بالنكول كان من جملة ذلك وصحة الضمير راجع إلى القضاء بالنكول وهذا جواب سؤال تقديري وهو أن يقال: أنّ الدين وصف في الذمة فكيف يجري فيه البذل؟.


(١) في (ب) (صالح).
(٢) [ساقط] من (ب).
(٣) [ساقط] من (ب).
(٤) يُنْظَر: البحر الرائق (٧/ ٢٠٧).
(٥) يُنْظَر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (٢/ ٣٣٤).