للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلُهُ -رحمه الله-: (وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إِلَّا التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ التَّحَرّي)

فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا التَّعْلِيلُ؛ لَا يَكُونُ جَوَاباً، لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ (١) فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّكْلِيفَ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ، لَكِنَّ هَذَا حَالُ الْعَمَلِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ حَالَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالْفِعْلِ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِمَا فَعَلَ عِنْدَ ظُهُورِ الْخَطَأِ، فَأَمَّا إِذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ، يَقِيناً، فَكَانَ فِعْلُهُ كَلَا فِعْلٍ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، كَمَا إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ بِاجْتِهَادِهِ، عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَكَمَا إِذَا تَوَضَّأَ بِمَاءٍ، فِي الْأَوَانِي، بِالتَّحَرِّي؛ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَكَمَا إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ، فِي حُكْمٍ، ثُمَّ وَجَدَ نَصّاً، بِخِلَافِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، لِظُهُورِ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ مَعَ جَوَازِ الْعَمَلِ، (بِمَا فِي وُسْعِهِ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ) (٢).

وَالَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ قَبِيلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَدْبِراً لِلْقِبْلَةِ فِي صَلَاتِهِ؛ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ؛ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ، أَوْ عَنْ (٣) يَسَارِهَا، فَأَنَا أُسَاعِدُكُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ.

قُلْتُ: فِي هَذَا التَّعْلِيلِ؛ جَوَابٌ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ، الَّذِي غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ حَقِيقَةً عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا (٤) غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَقْصَى فِي طَلَبِهِ، يُمْكِنُ دَرْكُ حَقِيقَتِهِ، أَوْ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فَيُشْبِهُهُ.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا انْقَطَعَ [عَنْهُ] (٥) عِلْمُهُ حَقِيقَةً عَنْ جِنْسِ (٦) الْإِنْسِ، وَلَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنِ اسْتَقْصَاهُ، فَمِن الْأَوَّلِ [هُوَ] (٧) مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ رُوِيَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ كَانَ (٨) الْجَهْلُ بِهِ، جَاءَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ؛ فَإِنَّهُ (٩) لَوْ طَلَبَ [حَقَّ الطَّلَبِ] (١٠) لَأَصَابَهُ فَصَارَ كَالَّذِي اجْتَهَدَ فِي الْمِصْرِ، وَ (١١) أَخْطَأَ الْمِحْرَابَ، وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي فِي ثَوْبٍ أُمِرَ بِإِصَابَةِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ غَسْلَ ذَلِكَ بِمَاءٍ، ثُمَّ اسْتِصْحَابُهُ (١٢) مَعَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِ، لِنِسْيَانِهِ الطَّاهِرِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ فِي مَاءِ الْوُضُوءِ، كَانَ فِي وُسْعِهِ اسْتِخْبَارِهِ، مِمَّنْ لَهُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ نَجَاسَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي وُسْعِهِ، كَانَ فِي وُسْعِهِ إِرَاقَتِهِ، وَالتَّيَمُّمُ الَّذِي يَخْلُفُهُ، لَا شُبْهَةَ فِيهِ وامَّا (١٣) عِلْمُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَمِنَ الْنَوْعِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى عِلْمِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ لِلْغَائِبِ عَنِ الْكَعْبَةِ، عَلَى النَّجْمِ لَا عَلَى خَبَرِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمُخْبِرَ، لَوْ أَخْبَرَ؛ إِنَّمَا يُخْبِرُهُ (١٤) عَنِ النَّجْمِ أَيْضاً، ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَجَزَ عَنِ الاسْتِدْلَالِ، بِالنَّجْمِ لِعَارِضِ الْغَيْمِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَسَقَطَ بِهِ، خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى، لِمَا لَمْ يُعْطَ قُدْرَةُ إِزَالَتِهِ إِيَّاهُ، فَلْمَ يَعْمَلْ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ يَقِيناً، كَنَصٍّ نَزَلَ بَعْدَ الْعَمَلِ، بِخِلَافِهِ، أَوْ نَزَلَ وَلَمْ يُبْلِغْهُ، لَا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ، كَمَا فِي ابْتِدَاءِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (١٥).


(١) "الأم" للشافعي (١/ ٩٣).
(٢) ساقطة من (ب).
(٣) (عن): ساقطة من (ب).
(٤) (ما): ساقطة من (ب).
(٥) (عنه): زيادة من (ب)
(٦) في (ب): (حس)
(٧) زيادة من (ب)
(٨) في (ب): (كأن)
(٩) في (ب): (لأنه)
(١٠) زيادة من (ب)
(١١) في (ب): (أو)
(١٢) في (ب): (الموضع لاستصحابه).
(١٣) في (ب): (وإنما).
(١٤) في (ب): (أخبره).
(١٥) سورة المائدة: من آية (٩٣).