للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (١) فِي "الْمَبْسُوطِ": (وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ السُّجُودُ مَثْنَى تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهُ أُمِرَ بِسَجْدَةٍ (٢) فَلَمْ يَفْعَلْ فَنَحْنُ نَسْجُدُ مَرَّتَيْنِ (٣) تَرْغِيمًا لَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ -صلى الله عليه وسلم- فِي سُجُودِ السَّهْوِ؛ فَقَالَ: «هُمَا تَرْغِيمَتَانِ لِلشَّيْطَانِ» (٤) وَقِيلَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يُعَادُ إِلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (٥) الْآيَةُ) (٦).

قَوْلُهُ -رحمه الله-: (فَاسْتَوَى قَائِمًا عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَمُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ).

أَيْ: لَا يَجْلِسُ جَلْسَةً خَفِيفَةً؛ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي اعْتِمَادِ الْيَدَيْنِ عِنْدَنَا يَعْتَمِدُ بِهِمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَعِنْدَهُ (٧) يَعْتَمِدُ بِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالثَّانِي فِي الْجَلْسَةِ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَهُ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ؛ وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ: «لا تُبادِروا (٨) بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ فَإِنِّي قَدْ بَدنْتُ» (٩) وَمَا رَوَيْنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْقُدْرَةِ، فَنُوَفِّقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ أَوْ نَتْرُكُ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا لِتَعَارُضِ بَعْضَهَا بِالْبَعْضِ وَنَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ (١٠) وَالْقِيَاسُ مَعَنَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ، (وَلِأَنَّ هَذِهِ قَعْدَة اسْتِرَاحَةٍ) وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا لِلاسْتِرَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا لِلْفَصْلِ؛ فَإِنَّ الْفَصْلَ بِالْقَعْدَةِ؛ إِنَّمَا شُرِعَ إِمَّا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الشِّفْعَيْنِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْفَصْلَيْنِ هُنَا (١١) فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْفَصْلِ؛ كَانَ مَا يَأْتِي بِهَا لِلاسْتِرَاحَةِ وَالْقَعْدَةِ؛ الَّتِي هِيَ لِلاسْتِرَاحَةِ لَا لِلْفَصْلِ (١٢) لَمْ تُشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لِلانْتِقَالِ (١٣) [إنْتِقَالَانِ انْتِقَالٌ] (١٤) مِنَ الْقِيَامِ إِلَى السُّجُودِ، وَانْتِقَالٌ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ فِي الانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى السُّجُودِ، فَكَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يَقْعُدَ فِي الانْتِقَالِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ اعْتِبَاراً؛ لِأَحَدِ الانْتِقَالَيْنِ بِالْآخَرِ؛ وَلِأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى غَيْرِهِ فِي صَلَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَعُذْرٍ فَيَكُون مُسِيئاً قِيَاساً عَلَى مَا لَوِ اتَّكَأَ عَلَى حَائِطٍ، أَوْ عَصاً بِخِلَافِ مَا لَوِ اعْتَمَدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ؛ لِأَنَّا قُلْنَا عَلَى غَيْرِهِ كَذَا فِي "مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ".


(١) (وَ) ساقطة من (ب).
(٢) في (ب): (بالسجدة).
(٣) في (ب): (سجدتين).
(٤) أخرجه مسلم في "صحيحه" (ص ٢٢٧)، كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، حديث (٥٧١)، عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيماً للشيطان».
(٥) سورة طه: (٥٥).
(٦) "المبسوط" للسرخسي (١/ ٢١).
(٧) ينظر: "مختصر المزني" (ص ٢٦).
(٨) في (أ): (لَا يُبَادِرُونِي) والمثبت من (ب) هو الصحيح.
(٩) الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" (ص ٩٠)، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر المأموم من إتباع الإمام، حديث (٦١٩)، وأخرجه بن ماجه في "سننه" (١/ ٣٠٩)، كتاب الصلاة، باب النهي أن يسبق الإمام بالركوع والسجود، حديث (٩٦٢) و (٩٦٣). قال ابن الملقن في"البدر المنير" (٤/ ٤٨٧): (هذا الحديث صحيح).
قوله (بدنت) قال البغوي: مشددة الدال معناه: كبر السن يقال: بدن الرجل تبدينا إذا أسن، وبعضهم يروي: بدُنت، مضمومة الدال مخففه ومعناه: زيادة الجسم واحتمال اللحم. وقال ابن الأثير: "قال أبو عبيد: روي في الحديث" بدنت" بالتخفيف، وإنما هو بدنت بالتشديد، أي كبرت واسننت … الخ". (النهاية: (١/ ١٠٧)، شرح السنة: (٣/ ٤١٥).
(١٠) إن معرفة الحكم في مسألة القياس مدارها على معرفة العلة، والعلة في العبادات المحضة مجهولة السبب وهي الأصل، وإلحاق الفرع الذي يراد معرفة حكمه بالأصل الذي يجهل سببه أمر غير معلوم، فكيف يمكن القياس عليه، والقياس غالبا لا يلجأ إليه إلا عند نزول حادثة، والأمور التعبدية ليست كذلك. وأحاديث وصف صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- يُضم بعضها إلى بعض ولا يُضرب بعضها ببعض. والله أعلم.
(١١) في (ب): (هناك).
(١٢) في (ب): (الفعل).
(١٣) في (ب): (الانتقال).
(١٤) إلحاق في هامش النسخة (أ).