للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: هاهنا شبهة دوارة بين البلدان وسيارة في الخلصان، وهي أن العلماء الثلاثة كلهم في باب الرجعة تركوا أصولهم المذكورة هنا حيث عكسوا العلل وبينوا الأحكام على خلاف ما تقتضيه العلة المذكورة في كل موضع، فبرز في حق كل منهم صورة المناقضة فإن محمدًا -رحمه الله- جعل طهارة للمتيمم ضرورية هنا فلذلك لم يجوز إمامته للمتوضئين وجعلها مطلقة في باب الرجعة حتى أن المعتدة في الحيضة الثالثة إذا انقطع دمها وأيامها دون العشرة وتيممت تنقطع الرجعة بمجرد التيمم من غير أن يصلي كما إذا اغتسلت، فقال: لأن طهارة المتيمم طهارة مطلقة، وهما جعلاها مطلقة هنا، وضرورية هناك فاثبتا حكما على خلاف ما يقضيه عليهما في الموضعين من جواز إمامته للمتوضئين، وعدم انقطاع الرجعة بمجرد التيمم (١).

فأقول -وبالله التوفيق-: الأصل المذكور في موضع إذا ترك في موضع آخر باعتبار اقتضاء ذلك الموضع إياه لا يكون هو من باب المناقضة، بل هو عمل بالدليل في كل موضع على ما يقتضيه لكن النسيان في تخريجه، وهذا كما قلنا مع الشافعي في مسألة التدبير، فإن عند الشافعي يجوز بيع المدبر (٢)، وعندنا لا يجوز، والتدبير هو تعليق العتق بالموت والتعليقات أسباب في الحال عند الشافعي حتى أبطل تعليق الطلاق والعتاق بالملك، فيجب أن لا ينفد بيعه عنده بناء على هذا الأصل، وعندنا التعليقات ليست بأسباب حتى جوزنا التعليق بالملك في الطلاق والعتاق، فكان يجب أن يجوز بيعه إلا أنا نقول: الأسباب الشرعية إنما تعرف سببًا عند الاتصال بالمحل والمعلق بالشرط لم يتصل بالمحل بالاتفاق فلا يكون سببًا (٣).

واما التدبير فليس بتعليق وإن كان في صورة التعليق؛ لأن التعليق إنما يكون بالشرط والشرط اسم لمعدوم على خطر الوجود وللحكم تعلق به، والموت أمر كأئن تحققه لا محالة فلا يكون التعليق به تعليقًا حقيقيًّا؛ لانعدام حده، ولأن في سائر التعليقات بقاء الأهلية عند وجود الشرط ظاهرًا، وفي التدبير عند وجود الشرط بطلان الأهلية من كل وجه، فلو أخرنا ما السببية هنا إلغاء كلامه من كل وجه بخلاف سائر التعليقات، وكذلك نقول مطلقا الكتاب مقدم على السنة، والسنة على القياس، ثم قد يتقدم القياس على العام الذي خص منه البعض، وللآية المؤلة والسنة التي يلزم بعملها انسداد باب القياس (٤) من كل وجه، وكذلك ترك أبو يوسف ومحمد أصلهما في مسألة الإدام فجعل أبو يوسف اللحم والبيض والجبن إدامًا في قوله: إن أكلت إلا رغيفًا حيث لم يحنث عند أكل الرغيف بهذه الأشياء؛ لأن هذه الأشياء تبع للرغيف ولم يجعلها محمد إدامًا، ثم عكسا العلة في قوله: لا يأكل إلا إدامًا فرتبنا الحكم عليها على ما يقتضيه، فكذلك هاهنا (٥)، ثم في طهارة التيمم (٦) جهة الإطلاق وجهة الضرورة ظاهرة، أما كونها مطلقة فإنها ليست بمؤقتة بخلاف طهارة المستحاضة ويثبت بما يثبت بالطهارة الحاصلة بالماء من استباحة الصلاة ومس المصحف، وسجدة التلاوة وغيرها، وأما جهة كونها ضرورية فإنها في الحقيقة تلويث وتلطيخ ولا ترفع الحدث حقيقة حتى إذا وجد الماء كان محدثًا بالحدث السابق، ثم اختار كل واحد من الطرفين ما لاح له من الدليل فاختار محمد -رحمه الله- في الموضعين جانب الاحتياط، فإنه يختار في مثله الاحتياط حتى أنها لو اغتسلت وتركت المضمضة والاستنشاق في الاغتسال تنقطع الرجعة عند محمد خلافًا لأبي يوسف احتياطًا لشبهة اختلاف العلماء فإن من الناس من يقول: المضمضة والاستنشاق (٧) سنة، فكان الاحتياط في قطع الرجعة، فلما كان الاحتياط أصلًا عنده كان الاحتياط في مسألتنا القول بعدم جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم؛ لأنه لما لم يجز له ذلك لا بد له أن يقتدي بالمتوضئ أو يصلي منفردًا يخرج عن عهدة الصلاة حتى تكون صلاته بالوضوء من كل وجه فيخرج عن عين الصلاة إجماعًا (٨)، وكذلك في فصل الرجعة، فإنه لما انقطعت ليس له أن يراجعها، ولا يحل له وطئها، والحكم بسقوط الرجعة مما يؤخذ بالاحتياط إجماعًا حتى أنها لو اغتسلت وبقي على بدنها لمعة تنقطع الرجعة عنها احتياطًا، وإن لم يحل لها أداء الصلاة، وهاهنا يحل لها الصلاة بالتيمم فأولى أن ينقطع به، وكذا لو اغتسلت بسور الحمار تنقطع الرجعة إجماعًا احتياطًا، ولم يحل لها أداء الصلاة، فلما كان العمل بالاحتياط أصلًا عنده، وهو متحد في الموضعين، ولكن اختلف سبب الاحتياط في الموضعين فلا يتناقض مذهبه؛ لأن أصل واحد غير منقوض، وهو العمل بالاحتياط، وإنما جاءت الصورة التناقض لاختلاف طريق الاحتياط في الموضعين، ولكن الاحتياط شيء واحد فيهما فلا يتناقض (٩).


(١) يُنْظَر: العناية شرح الهداية: ١/ ٣٦٧، الجوهرة النيرة: ٢/ ٥٢.
(٢) الْمُدَبَّرِ هُوَ الَّذِي يُعْتَقُ بِمَوْتِ مَوْلَاهُ. ينظر: تبيين الحقائق (٣/ ١٠٠).
(٣) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ٧/ ٣٢٥.
(٤) في (ب): الترجيح.
(٥) يُنْظَر: العناية شرح الهداية: ٥/ ٢١، والمَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ٨/ ٣١٣.
(٦) في (ب): زيادة لها.
(٧) الاستنشاق زيادة من (ب).
(٨) ساقط من (ب).
(٩) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ٦/ ٤٧.