للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما قوله: فإنه متبرع، فلا يلزمه ما لم يتبرع به، فإنا لا نقول: إن تبرعه بما ليس عليه يلزمه ما لم يتبرع به، ولكن وجب عليه حفظ المؤدي؛ لكونه قربة، فإن التحرز عن إبطال العمل واجب بالنص، كما أن الوفاء بالعهد واجب يلزمه الأداء بعد النذر ولأنا لو أبحنا له الترك وخيّرناه (١) بطل ما مضى باعتبار الترك، فرجحنا جانب العبادة على جانب المباح من الفعل، وهو أصل في الشرع ألا ترى أن الرجل إذا كان في الصلاة في جانب منها مقيمًا، وفي جانب مسافر لزمته صلاة الإقامة، وإن قصد الترخص بالقصر، فترجح الموجب على المسقط، فكذلك هاهنا على أنا لا نقول: إن ما بقي من الفعل صار واجبًا في نفسه، بل نفليته باقية كما كان، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: فيمن شرع في صلاة النفل قائمًا كان له أن يتمها قاعدًا بلا عذر كما لو ابتدأ الشروع في النفل قاعدًا؛ لأنه في نفسه نفل، وليس بواجب، وإنما يأمره بالفعل لحق ما مضى حتى لما يبطل، فإن الله تعالى نهانا عن إبطال القرب كما أمرنا بالوفاء بالنذور والعهود، فوجب الاحتراز عن إبطالها كما وجب الائتمار بوفاء النذور بالإجماع هذا حاصل ما ذكر في «الأسرار» (٢)، و «المبسوط» (٣).

قلت: ولما وجب الفعل بالنذر بالإجماع؛ لأنه يجب بالشروع بالطريق الأولى، وبيان الأولوية من ثلاثة أوجه، أحدها: أن الوجوب المستفاد في النذر مستفاد من الأمر، بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (٤).

وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ووجوب صيانة المودّي مستفاد من النهي بقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (٥).

وما ثبت من الوجوب بالنهي آكد من الوجوب الذي ثبت بالأمر؛ لأن المنهي في النهي آتٍ بالفرض أبدًا بخلاف الأمر، وإليه أشار النبي عليه [السلام] (٦) بقوله: «لترك ذرة مما نهى الله تعالى خير من عبادة الثقلين» (٧)، (٨).


(١) في ب وخيره بدل من وخيرناه.
(٢) انظر: كشف الأسرار: ١/ ٢١٣.
(٣) انظر: المبسوط للسرخسي: ١/ ٤٠١.
(٤) سورة المائدة الآية (١).
(٥) سورة محمد الآية (٣٣).
(٦) سقط في الأصل.
(٧) ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح (ص ٣٢).
(٨) انظر: حاشية الطحاوي: ١/ ٣٢.