للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي «المحيط» (١): قال مشايخنا: وإنما لا يجب إعادة الفوائت عند أبي حنيفة إذا كان عند المصلى أن الترتيب ليس بواجب، وأن صلاته جائزة، وأما إذا كان عنده فساد الصلاة بسبب الترتيب، فعليه إعادة الكل كما قال أبو يوسف، ومحمد؛ لأن العبد يكلف بما عنده ثم ما قالاه قياس، وما قاله أبو حنيفة استحسان، فوجه القياس هو أن سقوط الترتيب حكم، والكثرة علة لهذا الحكم، وإنما يثبت الحكم إذا ثبتت العلة في حق ما بعدها، فأما في حق أنفسها، فلا كما إذا رأى الرجل عنده يبيع ويشتري فسكت؛ يثبت الإذن فيما يتجر (٢) بعده لا في ذلك البيع الذي رآه، وكذلك كون الكلب معلمًا يترك الأكل ثلاث مرات يثبت الحل فيما بعد الثلاث لا فيها، ولأنها فسدت الخمس بفوات الترتيب حتى لو اشتغل بالقضاء في ذلك الوقت كان عليه قضاء الكل، فبتأخير القضاء لا ينقلب صحيحًا، ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو الاستحسان أن الترتيب يسقط بكثرة الفوائت، والكثرة تثبت بسادسة، فإذا ثبت بها استندت إلى أولها، فيثبت سقوط الترتيب الذي هو حكمها كما في تصرف المريض، وتعجيل الزكاة، وهذا لأن الترتيب لما سقط عن أغيارها بسبب الكثرة، فأولى أن يسقط عن كل واحدة من آحادها لهذا المعنى، وهذا كالضرب حتى تألم غير موضعه بسببه، فلأن يتألم موضعه بسببه أولى، ولأن كتاب الله تعالى يقتضي جواز الوقتية في الوقت، ومراعاة الترتيب مانع من الجواز فتوقف الجواز على زوال المانع، فإذا سقط الترتيب زال (٣) المانع فيحكم بجوازها، ولا يبعد أن يتوقف حكم الصلاة المؤدَّاة على ما يتبين أمرها في ثاني الحال كمن صلى المغرب بعرفات يتوقف فإن أفاض إلى المزدلفة (٤) في وقت العشاء ينقلب نفلًا، ويلزمه إعادتها مع العشاء في المزدلفة، [وإن لم يأت إلى المزدلفة]، وتوجه إلى مكة (٥) من طريق آخر، أو إلى المزدلفة بعدما أصبح من الغد جاز المغرب، وكذا لو صلى الظهر في منزله يوم الجمعة، فإن راح إلى الجمعة قبل فراغ الإمام انقلب نفلًا، وإن راح بعد فراغ الإمام بقيت فرضًا، وكصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيما دون عادتها، وصلت صلوات، ثم عاودها الدم يتبين أنها لم تكن صلاة صحيحة، وإن لم يعاودها الدم يتبين أنها كانت صحيحة كذا هنا (٦).


(١) انظر: المحيط البرهاني: ٢/ ٤٣.
(٢) - في ب يتجزأ بدل من يتجز
(٣) في ب بسببزوال بدل من زال
(٤) المزدلفة: بالضم ثم السكون ودال مفتوحة مهملة ولام مكسورة وفاء اختلف فيها لم سميت بذلك فقيل: مزدلفة منقولة من الازدلاف وهو الاجتماع وفي التنزيل وأزلفنا ثم الآخرين، وقيل: الازدلاف الاقتراب؛ لأنها مقربة من الله، وقيل: لازدلاف الناس في منى بعد الإفاضة. (معجم البلدان: ٥/ ١٢٠).
(٥) مَكة: بيت الله الحرام، قال: أبو بكر بن الأنباري: سميت مكه لأنها تمُك الجبارين، أي تذهب نخوتهم ويقال: إنما سميت مكة لازدحام الناس بها من قولهم قد أمتك الفصيل ضرع أمه إذا مصه مصًّا شديدًا وسميت بمكه لازدحام الناس بها قاله أبو عبيده. (معجم البلدان: ٤/ ١٤٧).
(٦) انظر: العناية شرح الهداية: ١/ ٤٩٦.