للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: أمّا القول بالتداخل فهو جواب الاستحسان، وأمّا جواب القياس فهو أن يجب بكل تلاوة سجدة في أي موضع كانت؛ لأنّ السجدة حكم التلاوة، والحكم يتكرر [بتكرر] (١) السبب؛ لأنه نتيجة السبب، ولا معنى للتداخل؛ لأنّ السجدة عبادة والعبادات محتاط في الإتيان بها، ولا يحتال لدرئها، بخلاف الحدود؛ لأنها عقوبات، والأصل في العقوبات إسقاطها لا استيفاءها.

فأمّا وجه الاستحسان: فما رُوي: «أن جبرئيل - صلى الله عليه وسلم - كان يتنزل ويقرأ بآية السجدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يكرّر عليه مرارًا وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد لها سجدة واحدة» (٢). ورُوي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (٣): «أنه كان يعلّم الناس القرآن في مسجد الكوفة، وكان يكرّر آية السجدة في مكان واحد [ربما كان واحد، وربما كان يخطو خطوة أو خطوتين، وكان يسجد لذلك مرة واحدة» (٤)، والنص إنما ورد في مكان واحد] (٥) في آية واحدة، وفيما عدا ذلك يبقى على أصل القياس، والمعنى فيه: أن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة من جنس واحد، ويجعلها ككلمة واحدة، ألا ترى أنّ من أقرّ بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يجعل مقرًّا مرة واحدة في المجالس المختلفة، يجعل الإقرار على حقيقته أربع مرات، هكذا هاهنا يفرق بين المجلسين بالاتحاد [والاختلاف] (٦).

[١٣٤/ أ] ولأن الحاجة إلى تكرر كلام الله تعالى للتعليم، والتعلّم، والتحفظ حاجة ماسة، فلو أوجبنا لكل مرة سجدة على حدة يقع في الحرج، بخلاف ما إذا اختلفت الآية في مجلس واحد؛ لأنه لا حرج ثمة؛ لأن آيات السجدة في القرآن محصورة، أمّا التكرار للتعليم، [والتعلم] (٧)، والتحفظ غير محصور، ولأن الإنسان لا يقرأ/ جميع آيات السجدة في مجلس واحد غالبًا، وأمّا تكرار آية واحدة للتعليم والتحفظ في مجلس واحد غالب، فلذلك ظهرت التفرقة بينهما، ولم يذكر في الأصل حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر في مجلس [واحد] (٨) مرارًا، فعلى قول الكرخي: لا يصلى عليه إلا مرة واحدة، وعلى قول الطحاوي (٩): يجب عليه الصلاة بكل مرة، وإن كان التكرار في مجلس واحد؛ لأنّ هذا حق الرسول (١٠)، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجفوني بعد موتي، قيل: وكيف تجفى يا رسول الله؟ قال: أن أُذكر في موضع ولا يُصلى عليّ» (١١)، وحقوق العباد لا تتداخل، وعلى هذا قالوا: من عطس وحمد الله في مجلس مرارًا ينبغي للسامع أن يشمته في كل مرّة؛ ولأنه حق العاطس. والأصح: أنه إذا زاد على الثلاث لا يُشمته. كذا في «المبسوط» (١٢) و «المحيط» (١٣).


(١) [ساقط] من (ب).
(٢) ذكره برهان الدين في كتابه. ينظر: المحيط البرهاني: ٢/ ٥٩.
(٣) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر، من قحطان: صحابي، من الشجعان، الولاة الفاتحين، ولد في زبيد (باليمن) وقدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، وهاجر إلى إلى أرض الحبشة. توفي في الكوفة سنة: ٤٤ هـ، وله ٣٥٥ حديثًا. ينظر: التاريخ الكبير: ٥/ ٢٢، الإصابة في تمييز الصحابة: ٤/ ٢١١، الطبقات الكبرى: ٤/ ١٠٥.
(٤) ذكره برهان الدين في كتابه. ينظر: المحيط البرهاني: ٢/ ٥٩.
(٥) ما بين معكوفين ساقط من (ب).
(٦) [ساقط] من (ب).
(٧) [ساقط] من (ب).
(٨) [ساقط] من (ب).
(٩) أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر: فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر. ولد ونشأ في طحا من صعيد مصر، وتفقه على مذهب الشافعي، ثم تحول حنفيًّا. ورحل إلى الشام سنة ٢٦٨ هـ فاتصل بأحمد ابن طولون، فكان من خاصته، وتوفي بالقاهرة. وهو ابن أخت المزني. من تصانيفه: «شرح معاني الآثار» في الحديث، و «بيان السنة» رسالة، وكتاب «الشفعة» وغيرهم. ينظر: تاريخ دمشق: ٥/ ٣٦٨، الجواهر المضية: ١/ ١٠٢، الأعلام للزركلي: ١/ ٢٠٦.
(١٠) ينظر: الفتاوى الهندية: ٥/ ٣١٥.
(١١) له شاهد عند الترمذي، فقد روى في «سننه» (٥/ ٥٥١)، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغم أنف رجل، رقم (٣٥٤٦) من حديث الحسين بن علي -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي".
(١٢) ينظر: المبسوط للسرخسي: ٢/ ٨.
(١٣) ينظر: المحيط البرهاني: ٢/ ٥٦.