للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما في الثياب: إذا اختلطتْ الطاهرةُ بالنجس، وليس بينهما علامةٌ لأحدِهما، فإنه يتحرَّى في ذلك سواء كانتْ الغلبةُ للطاهرِ أو للنجسِ أو استويا ثُمَّ إذا صلّى بثوبٍ منها بالتحري، ثُمَّ تبّينَ أنه كانَ نجسًا يُعيُد الصَّلَاةَ (١)، كذا ذكره في طهارة شرح الطحاوي. وذكر في "المَبْسُوط" (٢): هذا كَمَن توضأَ بهما، ثُمَّ تبيَّن أنهُ نجَِسٌ] أو صلّى في ثوبٍ، ثُمَّ تبينَ أنهُ نجسٌ (٣)، أو قضى القاضي في حادثةٍ باجتهادِهِ، ثُمَّ ظهرَ نصٌّ بخلافهِ، ولأبي حَنِيفَةَ ومُحَمَّد رحمهما الله: أنّ الواجبَ عليه الصْرفُ إلى مَنْ هو فقيرٌ عنده، وِقد فَعَل، فيجوزُ كما إذا صلّى إنسانٌ إلى جهةٍ بالتحِّري، ثُمَّ ظهَر الأمُر بخلافهِ، وهذا لِأَنَّ الفَقْرِ والغِنى لا يُوقَفُ عليهما، وقد لا يقفُ الإنسانُ على غِنى نفسهِ فصلًا مِن غيره والتكليفُ إنما يثُبتُ بحسَب الوسغِ بخلافِ النصِّ، فإنه يُوِقَفُ على حقيقتهِ، وكذلك يُوقَف على نجاسةِ الماءِ، وطهارتهِ بالإخبارِ، وإِلاَّ يبقى على الطَّهارةِ إِلاَّ إذا عَلِمَ أنهُ فقيرٌ، أي: حينئذٍ يجوز.

قولُه -رحمه الله-: هو الصحيحُ احتراز عمّا زَعَمَ بعضُ مشايخنا أنّ عند أبي حَنِيفَةَ، ومُحَمَّد -رحمهما الله- (٤) لا يجوز وحاصِلُ ذلك: أنّ المسألةَ على أربعةِ أَوْجُهٍ: أمّا إنْ كان يُعطي زكاةَ مالهِ رجلًا منِ غيرِ شكٍّ،] ولا نجس (٥)، ولا سؤال، فإنهُ يجزيه ما لمْ/ يتبيْن أنهُ غَنِي؛ لأنَّ الفقرَ في القابض أصلٌ، أو شَكٌّ في أمرِه، فإنْ كانَ عليه هيئةُ الأغنياء، فإنهُ لا يجزُئهُ حتى يَعلمَ أنُه فقيٌر؛ لأِنهُ في بعضِ الشكِّ يلزمُهُ التحري كما في الصَّلَاةِ، فإذا تركَ بعدما لزِمَهُ لمْ يقْع المؤدِّي موقعَ الجوازِ إِلاَّ أنْ يعلمَ أنهُ فقيرٌ، فحينئذٍ يجوز؛ لأنّ التحري كانِ المقصودَ، وقد حصلَ ذلك المقصودُ بدونِهِ، كالسعيِّ إلى الجُمعةِ، أو وقَع في أكثرِ رأيهِ أنهُ غَنِي، ومع ذلك دفع إليهِ، فإنُه لا يشكلُ أنهُ لا يجزيه ما لم يعلمْ أنهُ فقيرٌ، وأمّا إذا عَلِمَ بفقرهِ قال شمسُ الأئمةِ السَّرَخْسِي -رحمه الله-: الصحيح: أنهُ يجوزُ، وقد زَعَمَ بعضُ مشايخنا أنّ عنَد أبي حَنِيفَةَ ومحمد: لا يجوزُ كما لو اشتبهتْ عليه القِبلةُ فتحرَِّى إلى جهةٍ، ثُمَّ أعرضَ عن الِجهةِ التي أدَّى إليها اجتهادهٌ، وصلّى إلى جِهةٍ أُخرى، ثُمَّ تَّبينَ أنهُ أصاب القِبلةَ يلزمُهَ إعادةِ الصلاة عند أبي حَنِيفَةَ، ومُحَمَّد، حتى رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ -رحمه الله- قال: هناك أخشى عليه: يعني الكُفر لإعراضهِ عن القِبلَةِ عنده والأصَحُّ هو الفرقُ، فإنّ الصَّلَاةَ لغيرِ القِبلةِ مع العلم لاِ تكونُ طاعةً، فإذا كانَ عندَه أنَّ فعلَهُ معصيةٌ لا يمكنُ إسقاطَ الواجبِ عنُه] به (٦). وأمّا التصدقُ على] الَغِنىَ (٧) صحيح،] وليسَ (٨) فيه مِن معنى المعصية شيءٌ، ويمكنُ إسقاطُ الواجبِ عند إصابةِ محِّلهِ بفعِلهِ، فكانَ العملُ بالتحِّري لحِصولِ المقصودِ، وقد حَصَل بغيرهِ أو تحرّى بعد الشكِّ، ووقَع في قلبهِ أنهُ فقيٌر فدَفَعَ إليه، وهو الوجهُ الرابعُ إنْ ظهَر أنهُ فقيرٌ، أو لم يظهْر مِن حالهٍ شيءٌ جازَ بالاتفاقِ (٩)، وإنْ ظهرَ أنه كان غنيًّا، فكذلك الجوابُ عنَد أبي حَنِيفَةَ، ومُحَمَّد -رحمهما الله- (١٠)، وهو قول أبي يُوسُف -رحمه الله- أولًا، وعند أبي يُوسُف آخرًا يلزَمُهُ الإعادةَ (١١)، وهو قولُ الشَّافِعِي -رحمه الله- (١٢)، كذا ذَكَرَه الإمامُ الْمَحْبُوبِيّ -رحمه الله- (١٣) لعَدِمِ أهليةِ المَلِكِ، وهو الرُّكْنُ، فيُعلَمُ بهذا قوةُ مرتبةِ الرُّكْنِ، وانحطاطِ مرتبةِ الشرطِ، وإنْ كانَ جوازُ الأداءِ يتوقفُ بهما فإنَّ في مسألةِ الغِنىّ وغيرِه فاتَ بشرطُ الأداءِ؛ لأِنَّ فقُر المدفوعِ إليهِ شَرْطُ جوازِ الزَّكَاةِ، وفي عَبْدِهِ ومُكاتِبِهِ فاتَ التمليكُ هو الركنُ في الزكاة فلذلك جَازَ الأداءُ في الأُولى مع ظُهورِ الخطأ عندَ أبي حَنِيفَةَ، ومُحَمَّد -رحمهما الله-، ولم يجزْ هاهنا بالاتفاق (١٤)، والشرط أنْ يكونَ فاَضلًا عن الحاجةِ الأصليةِ، أي: شرطُ عدمِ جوازِ دَفْعَ] الصدقةِ (١٥) إليه، وإنمّا قُيِّدَ بهذا؛ لأنّهُ إذا مَلَكَ نِصابًا مِن الأموالِ سواءً كانت من الدراهمِ، والدنانيرِ أو في غيرِهما، ولكنْ ليست هي بفاضلةٍ عن الحاجةِ الأصليةِ يجوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إليه، والحاجةُ الأصلية في حقِّ الدَّراهِم، والدنانيرِ هي أنْ يكون الدين مشغولًا بها، وفي غيرها احتياجُه إليهِ في الاستعمالِ، وأَمْرِ المعاشِ (١٦) وعن هذا ذُكِرَ في "المَبْسُوط" (١٧): رَجُلٌ له ألفُ دِرْهَمٍ، وعليهِ ألفُ دِرْهَمٍ، ولهُ دَاْرٌ، وخادِم لغيرِ التجارةِ قيمتُهما عشرةُ آلافِ دِرْهم فلا زكاةَ عليهِ؛ لأنَ الدينَ مصروفٌ إلى المالِ الذي في يدهٍ؛ لأنهُ فاضلٌ عن حاجتهِ بعد للتغلب، والتصرف به، فكان الدَّيْنُ مَصروفًا إليه، فأمّا الدارُ والخادِمُ مشغولٌ بحاجتهِ فلا يُصرِفُ الدَّينُ إليهِ، ثُمَّ] قال (١٨): قال في الكتابِ: أرأيتَ لو تصدّقَ عليه ألم يكن موضعًا للصدَقَة؟ يريد به أنَّ المالَ مشغولٌ بالدّيْن فهو كالمعدومِ، وَمِلكَ الدّاْرِ، والخادمُ لا تحرمُ عليه أخذَ الصدقةِ، ولأَنَّه لا يُزيلُ حاجتَه، بل يزيدُ فيهاَ فالدارُ تُسترم، والعبدُ سَينفَقُ فلا بُدَّ لهُ مِنها، وهو في مَعنى ما نِقل عن الحسنِ البصريِّ -رحمه الله- (١٩) أنّ الصدقَة كانتْ تَحُلُّ للرجُلِ، وهو صاحب عشرةِ آلافِ درهمِ] هل (٢٠) وكيف يكون ذلك؟ قال: يكون له الدارُ، والخادمُ، والكِراعُ، والسِلاحُ كانوا ينهون عن بيع ذلك، وعلى هذا قال مشايخنا: إنّ الفقيَه إذا مَلَكَ مِنَ الكُتبِ ما يساوي مالًا عظيمًا، ولكنهُ محتاجٌ إليها يحِلُّ له أَخْذُ الصدَقةِ إِلاَّ أنْ يملكَ فضَلًا عن حاجتهِ ما يُساوي مائتي درهم.


(١) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٢٧٥).
(٢) يُنْظَر: المَبْسُوط للسَّرَخْسِي (١٠/ ٣٢٤).
(٣) سقطت في (ب).
(٤) المَبْسُوط (١٠/ ٣٢٤)، فَتْحُ الْقَدِيرِ (٢/ ٢٧٧).
(٥) في (ب): (ولاتحرى).
(٦) سقطت في (ب).
(٧) سقطت في (ب).
(٨) في (ب): (فليس).
(٩) يُنْظَر: الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (١/ ١٩٠)، حاشية ابن عابدين (٢/ ٣٥٢).
(١٠) يُنْظَر: تَبْيِينُ الْحَقَائِق (١/ ٣٠٤)، بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٥٠).
(١١) يُنْظَر: بَدَائِعُ الصَّنَائع (٢/ ٥٠)، الفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة (١/ ١٩٠).
(١٢) يُنْظَر: الْمَجْمُوع (٦/ ٢٣٠).
(١٣) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة (٢/ ٢٧٦، ٢٧٧).
(١٤) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٢/ ٢٦٦)، حاشية ابن عابدين (٢/ ٣٥٢).
(١٥) في (ب): (الزكاة).
(١٦) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: (٢/ ٢٧٧).
(١٧) يُنْظَر: المَبْسُوط للسَّرَخْسِي: (٢/ ٣٥٥).
(١٨) سقطت من ب.
(١٩) هو: الحسن بن أبي الحسن أبو سعيد البصري، واسم أبيه يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وكان من سبي ميسان، واسم أمه خيرة مولاة أم سلمة، ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر وكان يوم الدار بن أربع عشرة سنة، واحتلم سنة سبع وثلاثين وخرج من المدينة ليالي صفين ولم يلق عليًّا، وقد أدرك بعض صفين ورأى عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وما شافه بدريًّا قط إِلاَّ عثمان، وعثمان لم يشهد بدرًا. مات في شهر رجب سنة عشر ومائة وهو ابن تسع وثمانين سنة وكان يدلس وصلى عليه النضر بن عمرو المقرئ من حمير من أهل الشام، وكان الحسن من أفصح أهل البصرة لسانًا، وأجملهم وجهًا، وأعبدهم عبادة، وأحسنهم عشرة، وأنقاهم بدنا رحمة الله عليه.
يُنْظَر: ثقات ابن حبان (٤/ ١٢٢)، التاريخ الكبير (٢/ ٢٨٩)، الجرح والتعديل (٣/ ٤٠).
(٢٠) في (ب): (قبل وكيف).