للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: معنى قولِه: (الغني حُكْمُ الأداءِ) (١)، أي: الغِنى حُكِمَ حُكْمُ الأداءِ؛ وذلك لأنّ الأداءَ عِلَةُ المُلْكَ، والمُلْكُ عِلَةُ الغِنى،] فكان (٢) الغنُى مضافًا إلى الأداءِ لكن بواسطةِ المُلْك فكانَ للعلةِ الأَولى، وهي الأداءُ شُبهةُ السببِ، والسببُ الحقيقيُّ] هو (٣) الذي يتقدّمُ على الحُكَمَ حقيقةً، وما كانَ يْشبهُ السببُ مِن العِلَلِ لَهُ شُبهةُ التقّدمِ، وكان هذا مِن قَبيِل شَرِى القُربِ للإعتاق، فإنّ الشِرى عِلَّةُ المُلكِ، والملكُ في القريبِ عِلّةُ العِتْقِ بالحديثِ، فكان العِتْقُ حُكْمُ الشِّرِى، فلذلك جازت منُه الكفارةُ عنَد الشِرى؛ لِشُبهةِ تقدّمِ الشرِى على العتق لِوجودِ الواسطةِ، فكذا هنا لما شابه الأداءُ السببَ باعتبارِ أنَّهُ عِلّةُ الغنىِّ كان للأداءِ على الغِنى شبهة التقدّم، فيجوز وصفُ الغِنى حينئذٍ بالتعقبِ، والتأخَّرِ. فَلِمَّا تأخرَ الغنىُّ عن الأداءِ بهذا الطريق كان الأداءُ ملاقيًا المدفوَع إليه، وهو فقيرٌ فيجوز الأداءُ لما أنّ بقاءَ المدفوعِ إليهِ على صفةِ الفقرِ ليس بشرطٍ لصحةِ الأداءِ (٤)، ومما يُؤنِسُ صِحَّةَ هذا الجوابِ ما ذُكِرَ في "الفَوَائِد الظَّهِيرِيَّة "، (فقال:) (٥) قال علماؤنا: المُلكُ وإنْ كان يُقارِنُ التمليكَ، ولكنّ الغني (٦) يثبت [عقُيبه؛ لِأَنّ الغِنى: ما يقعُ به الاستغناءُ والاستغناءُ إنما يَثبَتُ بالتمكُّنِ، والاقتدارِ على التصُرفاتِ (٧)، وذلك مما يعقبُهْ، ولا يقترِنُ بهِ، ولِأَنَّ حُكْمَ الشيءِ لا يمنعُ عليه، وإنْ كانَ لا يُتصَّورُ إثباتُ تلكَ العِلَّةِ بعد ثُبوتِ ذلك الحُكْمِ كالطلقات الثلاث، وكالإعتاق فإنّ المطلقةَ الثلاثَ ِبحال لو طلقَّها لا يصُحُّ، وكذلكَ/ المعُتقُ لا يَصُحُّ فيه الإعتاقُ، ومعَ ذلك لا يمنعانِ علتهما، فلو كانَ حُكْمُ الِعّلةِ مانعًا للِعَّلةِ لما تَثْبُتُ الِعلَّةِ في صُورةٍ مَاْ، وهذا معنى ما ذَكَره الإمامُ الْإِسْبِيجَابِي -رحمه الله- في مبسوطه: أنهُ تمليكٌ منَ الفقيرِ مِنْ كُلَّ وجهٍ؛ لأنّهُ حينِ وَجَدَ فِعْلَ التمليكِ كانَ المَلِكُ فيه فقيرًا حقيقةً، وإنما ثَبُتَ الغِنى حُكمًا لهُ، فلا يمنعُ الحُكْمَ عليهِ، ككسرِ الكُوزِ (٨) هو كَسْرُ محَلًّ صحيحٍ من كُلَّ وجه [، وإنْ كانَ حُكْمُ هذا الفعلِ انكسارَ المحلِّ، وقتلَ الحيِّ يكونُ قتلًا للحيِّ، وإنْ كان حُكمُهُ زوالَ الحياةِ، ولهذا لا يُقَالُ: بأنهُ قتلَ الميتَ مِن وجهٍ، أو كَسَر المنكِسَر مِن وجهٍ، فكذلك هاهنا يجبُ أنْ لا يُقال: دَفْعُ الغِنى مِن وجهِ، ولكنهُ يُكرهُ؛ لأَنّ فيهِ شبهةُ المقارنَةِ، وحقيقةُ المقارنةِ تمنع الجوازَ فشبهتُها لاُبَّد أنْ يوجبَ الكراهةَ إِلاَّ إذا كانَ عليه دَيْنٌ أو له عِيالٌ لم يثبتْ بهذا الفعلِ معنى الغِنى أصلًا، فلا يُكْره (٩).


(١) يُنْظَر: الهِدَايَة (١/ ١١٥).
(٢) في (ب): (وكان).
(٣) سقطت في (ب).
(٤) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: (٢/ ٢٧٩).
(٥) سقطت في (ب).
(٦) زيادة (يثبت) في (ب)
(٧) يُنْظَر: الْبَحْرُ الرَّائِق (٣/ ٢٢٠).
(٨) الكُوزُ: هو الكوب إذا كان بعُرْوَة، فإن لم يكن بعروة فهو الكوب، وجمع الكُوز: كيزَانٌ، تهذيب اللغة (١٠/ ١٧٥).
(٩) يُنْظَر: الْعِنَايَة شرحُ الهِدَايَة: (٢/ ٢٧٩).