للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قلتُ: إن المنصوص عليه في القرآن الطواف بالبيت، وهو عبارة عن الدوران حوله، ولا يقتضي ظاهره التكرار إلا أنه ثبت عن رسول الله - عليه السلام - قولًا، وفعلًا تقديرًا كمال الطواف سبعة أشواط، فيحتمل أن يكون ذلك للإتمام، ويحتمل أن يكون للاعتداد به فيثبت منه القدر المتيقن، وهو أن يجعل ذلك شرط الإتمام، وإن كان شرط الاعتداد يقام الأكثر فيه مقام الكمال؛ ليترجح جانب الوجود على جانب العدم إذا أتى بالأكثر منه، ومثله صحيح في الشرع كمن أدرك الإمام في الركوع يجعل اقتداؤه في أكثر الركعة كالاقتداء في جميع الركعة في الاعتداد به، والمتطوع بالصوم إذا نوى قبل الزوال يجعل وجود النية في أكثر اليوم كوجودها في جميع اليوم، وكذلك في صوم رمضان عندنا، كذا في «المبسوط» (١).

وذكر الإمام الإسبيجابي -رحمه الله-: "وإنما كان كذلك؛ لأن الشرع أقام الأكثر في الحجّ مقام الكل في وقوع الأمن عن الفوات احتياطًا وصيانة وتحقيقًا.

بيانه أن النبي - عليه السلام - قال: «من وقف بعرفة فقد تم حجه» (٢).

وقد قلنا: أن من جامع بعد الوقوف لا يفسد، وبعد الرمي لا يفسد بالإجماع، ولو حلق أكثر الرأس صار متحللًا، فلما كان الأمر على هذا الوجه للتيسير جرينا على هذا الأصل فأقمنا الأكثر مقام الكل في باب التحلل، وما يجري مجراه صيانة لهذه العبادة عن الفوات، وتحقيقًا للأمن، يعني: أن الطواف أحد سببي التحلل، فلما أقيم الأكثر مقام الكل في أحد السببين، وهو الحلق بالإجماع أقيم في السبب الآخر، وهو الطواف أيضًا.

قوله: (والأفضل أن يعيد الطواف مادام بمكة) (٣).

(والأفضل أن يعيد الطواف مادام بمكة) لتحصيل الجبران بما هو من جنسه. كذا في «المبسوط» (٤).

(وفي بعض النسخ)، أي: نسخ «المبسوط» (٥).

(وعليه أن يعيد).

أي: طواف الزيارة.

(وإن أعاده بعد أيام النحر).

وأن هذه الوصل، وذكر في الأوضح أن هذه المسألة دليل على أن العبرة في فصل الحديث للطواف الأول إذ لو كان للثاني للزم الدم جبراً للتأخير عند أبي حنيفة، وحيث لم يجب دلنا على أن المعتبر هو الأول لكن الثاني شرع جابراً لنقصان تمكّن في الأول، ولو طاف جنبًا، ثُمَّ أعاد سقط عنه البدنة، ثُمَّ اختلف مشايخنا في أن المعتبر طواف الثاني أم الأول.

فكان أبو الحسن الكرخي (٦) يقول: المعتبر هو الأول، والثاني جبراً للأول، وكان يستدل على هذا بما قال في الكتاب أنه لو طاف لعمرة جنبًا في رمضان، ثُمَّ أعاد طوافه في أشهر الحجّ، وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعًا، ولو كان المعتبر هو الطواف الثاني لكان متمتعًا، وذلك لأن المعتد به هو ما يتحلل به من الإحرام، والتحلل حصل بالطواف الأول فكان هو المعتد به، والثاني جبر النقصان المتمكن فيه كالبدنة، وكما لو كان محدثًا في الطواف الأول كان هو المعتد به، والأصح أن المعتد به هو الثاني، وأن الأول ينفسح بالثاني.


(١) انظر: المبسوط (٤/ ٣٤).
(٢) سبق تخريجه (٩٦).
(٣) انظر: بداية المبتدي (١/ ٥١).
(٤) انظر: المبسوط (٤/ ٣٨).
(٥) انظر: المبسوط (٤/ ٤١).
(٦) الكرخي هو الإمام أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلاّل بن دَلَهْم الكرخي، الإمام الفقيه الزاهد، شيخ الحنفية في زمانه، وكان غزير العلم والرواية، كثير الصوم والصلاة، صبورًا على الفقر والحاجة، له: المختصر المشهور، وشرح الجامع الصغير والكبير، وكان يعد من المجتهدين في المذهب
(ت ٣٤٠ هـ).
انظر: الجواهر المضية (٢/ ٤٩٣)، تاج التراجم (ص/ ٢٠٠)، الفوائد البهية (ص/ ١٨٣).