للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلتُ: إن هذا الدم دم نسك كسائر المناسك، وسائر المناسك على المأمور فكذا هذا، ألا ترى أنه إذا عجز عن الهدي كان الصوم عليه.

وحاصله: أن الدماء ثلاثة أنواع: ما يجب جزاء على جناية كجزاء الصيد ونحوه، وما يجب نسكًا كدم القران والمتعة، وما يجب مؤنة كدم الإِحْصَار فكلها على المأمور سوى دم الإِحْصَار، فإنه مختلف فيه على ما هو المذكور في الكتاب.

(وأذنا له بالقِرانِ فالدمُ عليه) (١).

وإنما قُيد بقوله: (وأذنا له) فإنه لو (٢) لم يأذنا له بالقران لا يجوز له أن يجمع بينهما لأجلهما، فلو قرن كان مخالفًا كذا في «المبسوط» (٣)، فإن قلتَ: في هذه المسألة شبهتان، إحديهما: هي أن وجوب الدم عليه غير منحصر بإذنهما له بالقران، فإنه لو لم يأذنا له أيضًا فقرن هو كان الدم عليه، فلم يبق للتقييد به فائدة.

(والثانية: هي أن القران أفضل من الإفراد عندنا) أي: إفراد كل واحدٍ من الحجّة، والعمرة على ما مرّ بيانه [فحينئذٍ] (٤) كان القارن بهما آتيًا بما هو أفضل الأمرين، فلا يكون مخالفًا، فلو ثبت مخالفته إياهما إنما تثبت باعتبار أن الحجّة والعمرة المنفردتين كانتا أفضل من القران، فحينئذٍ يثبت مذهب الخصم.

قلتُ: أما الجواب عن الأولى: فإن فائدة التقييد بالإذن لدفع وهم وجوب الدم على الآمر، وذلك الوهم إنما يتأتى عند الإذن، فأما إذا لم يأذنا بالقران، فقرن هو كان مخالفًا لأمرهما فلا يُشكل [حينئذٍ] (٥) وجوب الدم على المأمور؛ لأن القران وقع له فكان دمه واجبًا عليه أيضًا؛ لأن وجوب الشكر على من أنعم عليه.

وأما الجواب على (٦) الثانية: أن ثبوت مخالفة أمرهما لم ينشأ من الإفراد بالحجّة، والعمرة أفضل من القران، بل باعتبار أن المأمور ما أتى بسفر خالص لواحد منهما فلم يكن مستوجبًا للنفقة في مال واحد منهما، فكان مخالفاً.

ألا ترى أن المأمور بالحجّ إذا قرن كان مخالفاً عند أبي حنيفة -رحمه الله- مع أن القران أفضل من الحجّ المفرد بالإجماع من غير خلاف لأحد، لا باعتبار أن القران أنقص من إفراد الحجّ، بل باعتبار أن المأمور بالحجّ كان مأمورًا بإنفاق المال في سفر مجرد للحج، وسفره هذا ما تجرد للحج بل بالحجّ والعمرة جميعًا فكان مخالفًا إلى هذا أشار في «المحيط» أن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة، فعليه خلاصه كالعبد إذا أحرم بإذن مولاه، ثُمَّ أُحصر كان عليه إخراجه يوضحه أن دم الإِحْصَار بمنزلة نفقة الرجوع، ونفقة الرجوع في مال الميت، وإن كان الحاج هو المنتفع به، فكذلك دم الإِحْصَار في ماله، وإن كان الحاج هو المنتفع به، ولا ضمان عليه فيما أنفق؛ لأنه لم يكن مخالفًا لأمر الميت فيما أنفق، ألا ترى أنه لو مات في الطريق لم يضمن/ ما أنفق فكذلك إذا أُحصر كذا في «المبسوط» (٧).


(١) انظر: بداية المبتدي (١/ ٥٦).
(٢) في (ب، ج): إذا.
(٣) انظر: المبسوط (٤/ ١٥٥).
(٤) أثبته من (ب، ج) وفي (أ) فح. ولعل الصواب ما أثبته لأنه والله أعلم أراد اختصار فحينئذٍ الى فح.
(٥) أثبته من (ب، ج) وفي (أ) ح. ولعل الصواب ما أثبته لأنه والله أعلم أراد اختصار حينئذٍ الى ح.
(٦) في (ب، ج): عن.
(٧) انظر: المبسوط (٤/ ١٥٦).