للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي حديث مَحْمُودِ بن لبيد (١): أن رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً بين يدي رسول الله -عليه السلام-، فقام رسول الله -عليه السلام- مغضباً، فقال: «أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم» (٢)، واللعب بكتاب الله تعالى ترك العمل به، فدلّ أن إيقاع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب، وأن المراد من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (٣) تفريق الطلقات على عدد إقراء العدة (٤).

ألا ترى أنّه خاطب الزّوج بالأمر بإحصاء العدة، وفائدة التّفريق فإنّه قال: لا يدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً؛ أي: يبدو له فيرجعها وذلك عند التّفريق لا عند الجمع.

وفي حديث عبادة بن صامت -رضي الله عنه- (٥): أن قومًا جاءوا إلى رسول الله -عليه السلام- وقالوا: أن أبانا طلّق امرأته ألفاً، فقال: «بَانَتْ امْرَأَتُهُ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ وِزْرًا فِي عُنُقِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (٦)، وأن الحسن -رضي الله عنه- إنّما قال لِشَهْبَاءَ: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وعندنا هذا لا بأس به، ولأنّ في إيقاع الثّلاث قطع باب التلاقي، وتفويت التّدارك عند النّدم، وَفِيهِ مَعْنَى مُعَارَضَةِ الشَّرْعِ، فَالْإِسْقَاطَاتُ فِي الْأَصْلِ لَا تَتَعَدَّدُ، كَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّرْعُ الطَّلَاقَ مُتَعَدِّدًا لِمَعْنَى التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ بَعْدَ مَا نَظَرَ الشَّرْعُ لَهُ، كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ حَالَةُ نَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهَا، وَكَوْنُهُ مَمْنُوعًا شَرْعًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْدَمُ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ، فَيُكْرَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ لِمَعْنَى خَوْفِ النَّدَمِ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِيالطُّهْرِ، ثُمَّ أُخْرَى فِي الْحَيْضِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَلَيْسَ فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَيْضِ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَلَا مَعْنَى اشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَدَلَّ أَنْ مَعْنَى كَرَاهَةِ الْإِيقَاعِ لِمَعْنَى خَوْفِ النَّدَمِ، فهذا مثله كذا في «المبسوط» (٧).


(١) مَحْمُودُ بنُ لَبِيْدِ بنِ عُقْبَةَ بنِ رَافِعٍ الأَنْصَارِيُّ. وُلِدَ: بِالمَدِيْنَةِ، فِي حَيَاةِ رَسُوْلِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيْثَ يُرْسِلُهَاقَالَ البُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَة، روَى عَنْهُ: بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَتُوُفّي محمود ابْن لبيد سَنَة ست وتسعين بالمدينة وكان ثقة قليل الحديث. انظر: سير أعلام النبلاء (٣/ ٤٨٥)، والطبقات الكبرى (٥/ ٥٧)، وتاريخ الإسلام (٢/ ١١٦٨).
(٢) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (كتاب الطلاق/ باب طلاق الثلاث مجموعات ومافيه من التغليظ/ ٥٥٦٤)، من طريق مخرمة، وقَالَ النَّسَائِيّ لَا أعلم رَوَاهُ غير مخرمَة. انظر: تخريج أحاديث الكشاف (٤/ ٤٨).
(٣) [الطلاق: ١]
(٤) ووجه الدلالة أن يطلقها وهي طاهر من غير جماع، أو حَبَل يستبين حملها. ينظر: تفسير الطبري = جامع البيان (٢٣/ ٤٣٤).
(٥) عبادة بْن الصامت بْن قيس بن أصرمالأنصاري الخزرجي، أَبُو الْوَلِيد، شهد العقبة الأولى، والثانية وشهد بدرًا، وأحدًا، والخندق والمشاهد كلها، هو أحد النقباء الاثني عشر. حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ، وَأَنَسُ بنُ مَالِكٍ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الخَوْلَانِيُّ توفي عبادة سنة أربع وثلاثين بالرملة، وقيل: بالبيت المقدس. يُنْظَر: سير أعلام النبلاء (٢/ ٥)، وأسد الغابة (٣/ ١٥٨)، والطبقات الكبرى (٣/ ٤١٣)
(٦) أخرجه الدارقطني في السنن (كتَابُ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَغَيْرِهِ/ ٣٩٢٤)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (كتاب الخلع والطلاق/ ١٤٦٦٨)، قالَ الدَّارَقُطْنِيّ: "رُوَاته ضعفاء وَمَجْهُولُونَ" انظر: تخريج أحاديث الكشاف (٤/ ٤٩).
(٧) المبسوط للسرخسي (٦/ ٦).