للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاَلَّذِي يُرْوَى فيه مِنْ التَّثْلِيثِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلأنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ وَبِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غُسْلاً، وَلا يَكُونُ مَسْنُونًا فَصَارَ كَمَسْحِ الْخُفِّ، بِخِلافِ الْغُسْلِ لأنَّهُ لا يَضُرُّهُ التَّكْرَارُ

-قوله: (والذي يروى [فيه] (١) من التثليث) هو ما روي عن عثمان وعلي -رضي الله عنهما- أنهما حكيا وضوء رسول الله -عليه السلام- فَغَسلا ثَلاثًا ثَلاثًا ومَسَحَا بِالرَّأْسِ ثَلاثًا (٢).

قلنا: المشهور عنهما أنهما غسلا ثلاثًا ثلاثًا ومسحا بالرأس مرةً واحدة، ولئن ثبت ما روي فنوفق بالحمل على أن التكرار ثلاثًا إنما كان للاستيعاب بماءٍ واحدٍ، وما روي أنه مسح مرةً محمول على أنه استوعب الكل بالمرة الواحدة، كذا في «مبسوط شيخ الإسلام» (٣).

ولا يقال: روي أن النبي -عليه السلام- توضأ ثلاثًا ثلاثًا فكان ماسحًا رأسه ثلاثًا؛ لأنا نقول: ثبت ذلك بمقتضى قوله: ثلاثًا ثلاثًا، وعدم التثليث يثبت بصريح قوله: إن النبي -عليه السلام- مسح برأسه مرةً واحدة، والصريح أقوى.

قَالَ: (وَيُرَتِّبُ الْوُضُوءَ فَيَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَكَرِهِ وَبِالْمَيَامِنِ) فَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ.

وَلَنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا حَرْفُ الْوَاوِ وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَتَقْتَضِي إعْقَابَ غَسْلِ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ فَضِيلَةٌ لِقَوْلِهِ -عَلَيْه الصَّلاة والسَّلام-: «إنَّ اللَّه تَعَالَى يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ»

-قوله: (فيبدأ) [تفيد] (٤) الترتيب.

-قوله: (والفاء للتعقيب) أي: مع الوصل؛ لأنه لو لم يدرج الوصل لا يثبت ما ادعاه بهذا؛ لأن غسل جميع الأعضاء يحصل عقيب القيام إلى الصلاة إذا حصل بعد القيام وإن لم يكن مرتبًا، فأما إذا كان الفاء للتعقيب مع الوصل اقتضى لزوم وصل غسل الوجه بالقيام إلى الصلاة، فلو قدم غير الوجه عليه يبطل الوصل فلا يجوز تقديم غيره عليه، ثم غيره معطوف عليه بحرف الواو وذلك يوجب الترتيب كما في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧].

أو نقول: لما ثبت في وجوب ترتيب غسل الوجه على القيام بمقتضى الفاء على ما ذكرنا بدون الفصل بشيء آخر، ثبت الترتيب في سائر الأعضاء أيضًا لعدم القائل بالفصل، فإن كل قائل بترتب غسل الوجه على القيام قائل بترتيب سائر الأعضاء عليه، وكل من لم يقل ذلك لم يقل هذا، ولكنا نقول: العمل بمقتضى الفاء وهو التعقيب ممكن على معنى إعقاب غسل جملة الأعضاء عن القيام إلى الصلاة [لا] (٥) إعقاب غسل الوجه عينًا بلا فصل؛ فإن المراد غسل هذه الأعضاء عقيب القيام إلى الصلاة كما لو قال رجل لآخر: إذا دخلت السوق فاشتر لي لحمًا وخبزًا وبقلاً. فإنه لا يفيد هذا تقديمًا وتأخيرًا، وإن علق شراء اللحم بكلمة الفاء بل يصير كأنه قال: فاشتر لي هذه الأشياء وهو لا يوجب الترتيب، فكذا هذا. والواو لمطلق الجمع من غير تعرض لترتيب ولا مقارنة فقلنا به لما أن في هذا الوجه عملاً بالسنة ودلالة الإجماع والمعقول.


(١) زائدة في (أ) والتصويب من (ب) ونسخة الهداية.
(٢) رواه البخاري في باب الوضوءثلاثاً (١/ ٤٣)، ورواه مسلم (١/ ٢٠٧) في باب فضل الوضوء والصلاة.
(٣) لم أجده في مبسوط شيخ الإسلام، وإنما ذكر نحوه في المبسوط للسرخسي (١/ ٨) باب كيفية الوضوء.
(٤) في الأصل (أ): «تفسير» والتصويب من (ب).
(٥) في (ب): «ولا».