للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: من أين اختصّ جهة اليمين في الأمر بطلاق نفسها دون غيرها، وكذلك أمره غيره بأن يطلق امرأته توكيل لا يمين، حتّى صحّ الرجوع عنه، ومن أين اختصّ جهة التّمليك في الأوّل وجهة التّوكيل في الثّاني؟.

قلت: لما اختصّ أمر الزّوج لامرأته بطلاق نفسها بالتّمليك للمعنى الذي ذكر، أنّها تصرف لنفسها لا لغيرها، وكان ذلك التّمليك مثبوتًا بالتّعليق؛ لأن فيه تعليق وقوع الطّلاق بتطليقها كان يمينًا؛ لأنّ كلّ تعليق يوجد من الزّوج في الطّلاق هو يمين (١)؛ لأنّ الطّلاق ممّا يُحلف به فكان يمينًا، واليمين لا يقبل الرجوع بإجماع الأمة؛ لأنّ الأيمان تعقد للزجر عن الأفعال أو للحمل على الأفعال على وجه التّأكيد.

ولو قبلت الرجوع ما أفادت فائدتها، فلما كان فيه معنى اليمين والتّمليك قلنا: باللّزوم لمعنى اليمين وبالاقتصار على المجلس لمعنى التمليك، فلذلك لم يمكن الرجوع للزّوج عمّا أمر لامرأته بطلاق نفسها، وذكر الإمام قاضي خان -رحمه الله- أنّ قوله: طلق امرأتي أو طلّقي ضرّتك توكيل؛ لأنّ التوكيل من يعمل لغيره والأجنبي يعمل لغيره، وأمّا المرأة في قول الزّوج لها طلّقي نفسك فبالطّلاق يعمل لنفسها، والتّوكيل لا يقتصر على المجلس؛ لأنّه لو اقتصر على المجلس ربما لا يقدر على الفعل في المجلس، فلا يحصل العرض ويملك الرّجوع عنه؛ لأنّه يعمل للموكّل وفي لحوق المنة ضرّر به فكان له أن يرجع، أمّا قوله: طلقي نفسك تمليك وأنّه تقتصر على المجلس لما قلنا من إجماع الصّحابة -رضي الله عنهم- في خيار المخبرة، ولأنّ قوله طلّقي نفسك مشتمل على التمليك والتّعليق (٢).

أمّا التّمليك فلما قلنا، وأمّا التّعليق فلأنّ وقوع الطلاق معلق بقبول المرأة، فإن اعتبرناه تعليقاً كان لازمًا؛ لأنّ تعليق الطّلاق لازم، وإن نظرنا إلى التمليك يكون لازمًا أيضاً فيكون لازمًا على كلّ حال، أمّا قوله لأجنبي طلّق امرأتي يشتمل على التّوكيل والتّعليق، وأنّ التّعليق وإن كان يقتضي اللزوم، فالتوكيل لا يقتضي اللّزوم بل يمنع فلا يثبت اللزوم؛ لأنّ اللزوم لم يكن ثابتًا.


(١) اليمين في الطلاق، قال الجمهور - من الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية -: لا نفرق بين ما كان جاري مجرى اليمين وبين غيره، وهو عندهم سواء، أي: إن كان قاصداً التعليق أو التهديد أو البر وعدمه، وقال ابن تيمه وابن القيم بالتفريق بين ما يجري مجرى اليمين، وما لا يجري مجرى اليمن، فما كان مجرى اليمين لا يقع، وما لا يجري مجرى اليمين يقع. انظر: المغني (٣/ ٣١٦)، والدر المختار (٣/ ٣٤١)، وحاشية الدسوقي (٢/ ٦٩٣)، ومجموع الفتاوى (٣٣/ ١٨٨)، وإعلام الموقعين (٣/ ٩٢).
(٢) ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٢٦٩).