للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإنّما ذكر الرّواية على قول أبي حنيفة -رحمه الله- لا غير -كذا في كشف الغوامض (١) -، فذكره ليبين أنّ ما ذكره في «الجامع الصّغير» (٢) قول أبي حنيفة لا قولهما، بدليل ما ذكر في الأصل، هما يقولان: الزّوج تكلم بالطّلاق، وجعله مفوّضاً إليه مشيئتها، فلا يقع بدون مشيئتها كقوله: أنت طالق إن شئت (٣)، أو أنت طالق كم شئت، وأنت طالق حيث شئت، أو أين شئت، لا يقع ما لم تشأ، ولأبي حنيفة -رحمه الله- أن المشيئة إنّما دخلت على حال الطّلاق فبقي أصله بلا مشيئة فوقع؛ وإنّما قلنا ذلك لأنّ كيف وضعت للسؤال عن الحال في اللغة، والحال نوعان: صفة، وعدد، فتعلق ذلك بالمشيئة والبيان فيه إلى الزوج، فإن نوى الإبانة وقد أبانت صحّ، وإن نوى العدد وقد وافقته صحّ أيضاً.

وأمّا إذا نَوَى الزَّوْجُ الْوَاحِدَةَ الْبَائِنَةَ فَشَاءَتْ الثَّلَاثَةَ، فَقَدْ شَاءَتْ غَيْرَ مَا نَوَى، وكذلك إن نوى الزّوج الثلاث فشاءت الواحدة الثانية فقد شاءت غير ما نوى؛ فلهذا كان الواقع عليها تطليقة رجعيّة، يوضحه أن الاستخبار عن وصف الشيء وحاله لما كان من ضرورته وجودًا أصلهتقدم وقوع أصل الطّلاق في ضمن تفويضه المشيئة في الصفة إليها، فإن الاستخبار عن وصف الشيء قبل وجود أصله محال، كما في قول القائل: يقول خليلي تراجع، بخلاف قوله: كم شئت؛ لأن الكمية استخبار عن العدد، فيقضي تفويض العدد إلى مشيئتها، وأصل العدد في المعدودات الواحد، وبخلاف قوله: حيث شئت وأين شئت؛ لأنّه عبارة عن المكان والطّلاق إذا وقع في مكان يكون واقعًا في الأمكنة كلها، فكان ذلك تعليق أصل الطّلاق بمشيئتها، وهذه الألفاظ كلّها على المجلس؛ لأنّها لا تنبئ عن الوقت فيتوقت بالمجلس، كقوله: إن شئت


(١) كشف الغوامض في الفروع، لأبي جعفر الهنداوني، الفقيه. ذكر فيه: بعض ما أورده محمد، في: (الجامع الصغير). ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (٢/ ١٤٩٣).
(٢) يُنْظَر: الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: ٢١٣).
(٣) يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ، لَا يَتَعَلَّقُ أَصْل الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا بَل تَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا، وذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرَّجُل لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ زَوْجَتِهِ؛ بِأَنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَوْ إِذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ كُلَّمَا شِئْتِ أَوْ كَيْفَ شِئْتِ أَوْ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَنَّى شِئْتِ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَشَاءَ وَتَنْطِقُ، وقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ مُخَاطَبَةً: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ اشْتَرَطَ مَشِيئَتَهَا فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ فَإِنْ تَأَخَّرَتْ لَمْ تَقَعْ. يُنْظَر: روضة الطالبين (٨/ ١٥٧)، وكشاف القناع (٥/ ٣٠٩)، ومطالب أولي النهى (٥/ ٤٣٦)، العناية بهامش فتح القدير (٣/ ٤٣٧)، المغني لابن قدامة (٧/ ٣٤٢).