للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

-كذا في «المبسوط» (١) وغيره-، والتفويض في وصفه يستدعي وجود أصله.

فإن قيل: لما كان هذا تفويضاً لوصف الطّلاق إلى مشيئتها يجب أن يكون لها استقلال بإثباته من غير استطلاع رأي الزّوج اعتباراً بعامة التفويضات.

قلنا: ذكر الطّحاوي -رحمه الله- في مختصره (٢): أنّ لها أن يجعل الطّلاق ثانياً وثلاثاً في قول أبي حنيفة -رحمه الله-، فقد جعل الطّحاوي-رحمه الله- المشيئة إليها في إثبات وصف الثّلاث والبينونة، حتّى قال بعض مشايخنا: أنّه إذا لم ينو الزّوج شيئاً وشاءت المرأة ثلاثاً وواحدة ثانية تقع ما أوقعت، بالاتّفاق على أصلين مختلفين؛ أما على أصل أبي حنيفة -رحمه الله- فلأن الزوج أقام امرأته مقام نفسه في إثبات الوصف، والزّوج متى أوقع طلاقاً رجعيًّا يملك أن يجعله ثانياً وثلاثاً، في قول أبي حنيفة -رحمه الله- فكذلك المرأة.

وأمّا على قولهما فكذلك يملك إيقاع الباين وإيقاع الثّلاث؛ لأنّه فوّض الطّلاق إليها على أي وصف شاءت، وهذا معنى قوله في الكتاب وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تُعْتَبَرُ مَشِيئَتُهَا فِيمَا قَالُوا جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ التَّخْيِيرِ

وما ذكر في الكتاب قول الجصاص وقد راجعت الفحول في جواب هذا الإشكال، فلم يقرع سمعي بجوابه، فيجب التّعويل على ما ذكره الطّحاوي كذا في «الفوائد الظهيرية» (٣).

وإن قال أنت طالق كم شئت أو ما شئت، طلقت نفسها ما شاءت، وذكر في أصل رواية «الجامع الصّغير» (٤)، قال: إن شاءت طلقت نفسها واحدة أو ثنتين أو ثلاثاً، فلم يقم عن مجلسها.

فإن قيل: يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا، والزّوج لا يسعه أن يطلقها ثلاثاً.

قلنا: قد روى الحسن بن زياد (٥) عن أبي حنيفة (٦) أن ذلك مباح لها في التخيير، واحتمل أن يكون المراد بقوله: إن شاءت طلقت نفسها ثلاثاً مشيئة القدرة، لا مشيئة الإباحة، يريد بذلك أنّها تقدر عليه، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (٧).


(١) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٢٠٧).
(٢) مختصر الطحاوي، في فروع الحنفية للإمام، أبي جعفر: أحمد بن محمد الطحاوي، الحنفي. ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (٢/ ١٦٢٧).
(٣) يُنْظَر: العناية شرح الهداية (٤/ ١٠٨).
(٤) يُنْظَر: الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: ٢١٣).
(٥) الحَسن بن زياد اللُّؤلؤي الفقيه، أبو عليّ مولى الأَنْصَار، صاحبُ أَبِي حنيفة. وكان رأسا في الفقه. ولي القضاء بالكوفة سنة ١٩٤ هـ ثم استعفى. من كتبه: (أدب القاضي)، و (معاني الإيمان)، و (النفقات) توفي سنة أربع ومائتين. يُنْظَر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: ١٥٠)، الوافي بالوفيات (١٢/ ١٦)، الأعلام للزركلي (٢/ ١٩١).
(٦) يُنْظَر: البناية شرح الهداية (٥/ ٤٠٦).
(٧) [الكهف: ٢٩].