للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكذلك ههنا، وأبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله- (١) قَالَا: إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ يُلْحِقَ الْمُطَلَّقَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ بالحكم المختصّ بالطّلاق، كما بعد التطليقات الثلاث، وبيان هذا أن بالتطليقات الثّلاث تصير محرمة ومطلقة، ثم بإصابة الزّوج الثّاني يرتفع الوصفان جميعًا، ويلحق بالأجنبيّة التي لم يتزوّجها قطّ، فبالتّطليقة الواحدة تصير موصوفة بأنّها مطلّقة، فيرتفع ذلك بإصابة الزّوج الثّاني ثمّ الدّليل على أنّ الزّوج الثّاني رافع للحرمة، لأمنه أن المنهي يكون متقرراً في نفسه ولا حرمة بعد إصابة الزّوج الثّاني، فدلّ أنّه رافع للحرمة، ولأنّه موجب للحلّ فإن صاحب الشّرع سمّاه محلّلاً، فقال: "لعن الله المحلّل والمحلّل له" (٢)، وإنّما كان محلّلاً لكونه موجباً ومن ضرورته أن يكون رافعًا للحرمة وبهذا يتبين أن جعله غاية مجاز، وهو نظير قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (٣)، والاغتسال موجب للطّهارة رافع لحدث الجناية لا أن يكون غاية الجنابة، والدّليل عليه أن أحكام الصّلاة تثبت متأبدّة لا إلى غاية، ولكن يرتفع بوجود ما يرفعها، كحكم زوال الملك لا يثبت موقتًا ولكن يرتفع بوجودها ما يرفعه وهو النكاح، إذا ثبت أنّ الزّوج الثّاني موجب للحلّ، وإنّما يوجب حلالاً لا يرتفع إلا بثلاث تطليقات، وذلك غير موجود بعد التّطليقة والتطليقتين فيثبت به.

ولمّا كان رافعًا للحرمة إذا اعترض بعد ثبوت الحرمة فلا يرفعها وهي تعرض الثبوت أولى، ولكنّ قول محمّدًا (٤) يَقُولُ: ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، وذلك لا يرتفع بالزّوج الثّاني حتّى لا تعود منكوحة له، وبقاء الحكم ببقاء سببه، فعرفنا أنّه ليس برافع للحرمة، ولا هو موجب للحلّ، لأنّ تأثير نكاح الثّاني في حرمتها على غيره، فكيف يكون موجباً للحلّ لغيره وسمّها محلّلاً لأنّه شارط للحلّ، لا لأنّه موجب للحلّ.

ألا ترى سمّاه ملعونًا باشتراطه ما لا يحلّ شرعًا، فعرفنا أنّه غير موجب للحلّ، ولأن الحرمة تحتمل التوقيت كحرمة المعتدة، وحرمة الاصطياد على المحرم، فجعلنا الزّوج الثّاني غاية للحرمة عملاً بحقيقه حتّى المذكور في الكتاب وفي السنة، حيث قال -عليه السلام-: «حتّى تذوقي من عسيلته» (٥) -كذا في «المبسوط» (٦) -.


(١) ينظر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٥).
(٢) أخرجه أبو داود في سننه (كتاب النكاح، باب في التحلل/ ٢٠٧٦)، وابن ماجه في سننه، (كتاب النكاح، باب المحلل والمحلل له/ ١٩٣٦)، قال الزيلعي: "قال الترمذي: حديث حسن صحيح". ينظر: نصب الراية (٣/ ٢٣٩)
(٣) [النساء: ٤٣].
(٤) ينظر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٦).
(٥) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الطلاق/ بَابُ التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ/ ٦٠٨٤)، ومسلم في صحيحه (كتاب النكاح/ بَابُ لَا تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ/ ١٤٣٣).
(٦) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٩٦).