للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وعند الشّافعي -رحمه الله- لا تقع الفرقة بمضي المدّة، ولكنّه توقف بعد المدّة على أن يفي إليها أو يفارقها، فإن أبى أن يفعل فرّق القاضي بينهما، وكان تفريقه تطليقة باينة-كذا في «المبسوط» (١) -.

ولنا أنّه ظلمها فجازاه الشّرع بزوال النعمة.

فإن قلت: فقد ذكر الإمام قاضي خان -رحمه الله- في باب العنّين من «الجامع الصّغير» (٢) أنّ الزّوج إذا وطئها مرّة، ثم عجز بعد ذلك لا خيار لها؛ لأنّ ما هو المقصود وهو تأكد المهر والإحصان وغير ذلك يحصل بالواحد، وما زاد على ذلك فهو مستحق ديانة لا حكمًا، فلما لم تكن للمرأة ولاية مطالبة الزّوج بالوطء حكمًا بعد وطئه إيّاها مرّة، كيف يكون الزّوج يمنع ما ليس بمستحق عليه ظالماً؟.

قلت: إن لم يكن مستحقًا عليه حكمًا، فهو مستحق عليه ديانة، فلما وجب عليه قضاء حقها في الوطء مرّة بعد أخرى ديانة، جازاه الشّرع بزوال نعمة النكاح، بوقوع الطّلاق لمنعه مالها عليه واجب أداؤه ديانة، فإن كان حلف على الأبد فاليمين باقية.

اعلم أن ذكر لفظ الأبد ليس بشرط في حقّ هذا الحكم الذي ذكره، بل المراد منه أنّه لم يذكر في هذا لفظًا يتقيّد اليمين بأربعة أشهر، بأن قال: والله لا أقربك أربعة أشهر، فإنّ الإمام التمرتاشي قال: رجل حلف لا يجامع امرأته أبدًا، ولم يقل أبدًا، فهو مولى إن لم يقربها أربعة أشهر بانت، ثم لو مضت أربعة أشهر أخرى وهي في العدّة، بأن كانت ممتدة الطهر لم تقع أخرى؛ لأن بالأولى بانت ولم يبق حقها في الوطء، فلا ينعقد ثانياً ولو تزوّجها، ثم مضت أربعة أشهر أخرى منذ تزوّج تقع أخرى؛ لأن اليمين باقية وعاد حقها في الوطء فينعقد، وكذا إن تزوجها ثالثاً، فإن بانت بالإيلاء ثلاثاً أو تنجيز الثّلاث بطل الإيلاء لبطلان التّعليق بالتنجيز، فإن قربها كفّر لبقاء اليمين، فإن أبانها، ثم مضت المدّة وهي في العدّة بانت؛ لأنّ الباين المعلق يلحق الباين، فإنّ تزوّجها في العدة أي قبل الثلاث احتسب بما مضى من المدّة لبقاء محلّ اليمين، وإن تزوّجها بعد العدّة فهو مولى، ويستأنف المدّة لزوال محل الطّلاق، ولو حلف على أربعة أشهر سقط اليمين بمضيه، إلا أنّه لا يتكرّر الطّلاق قبل التزوّج.

وذكر في «المبسوط» ولم يذكر في الكتاب فصلاً آخر، وهو أنّه إذا آلى من امرأته، أي: إيلاء مطلقاً من غير أن يقيده بأربعة أشهر، فبانت بمضي أربعة أشهر، هل ينعقد مرّة أخرى قبل أن يتزوّجها أم لا؟ وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (٣) يَقُولُ: تَنْعَقِدُ حَتَّى إذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهِنَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ مَا بَيَّنَّا (٤)، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا تَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِ الْمُدَّةِ ابْتِدَاءً لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّرُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مَا لَمْ يَتَزَوجْهَا؛ لأنّه لا حقّ لها في الجماع، فلذلك لا ينعقد المدّة ما لم يتزوّجها، (فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا)، أي: تزوّجها بعد البينونة بمضيّ أربعة أشهر وبعد انقضاء التزوّج عدّتها، فإنّه لو تزوّجها قبل انقضاء عدّتها كان ابتداء الإيلاء الثّاني من وقت الطّلاق لا من وقت التزوّج (٥).


(١) انظر الأم للشافعي (٥/ ٢٨٩)، والمبسوط للسرخسي (٧/ ٢٠).
(٢) يُنْظَر: تحفة الفقهاء (٢/ ٢٢٧)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (٣/ ٢٣).
(٣) أَبُو سهل الزجاجي تفقه على أبي الحسن الكرخي. وتفقه به أهل نيسابور فَمَاتَ بهَا ودرس عَلَيْهِ أَبُو بكر الرَّازِيّ وتفقه بِهِ فُقَهَاء نيسابور من أَصْحَاب الإِمَام. وله كتاب "الرياض". ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (٢/ ٢٥٤)، تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: ٣٣٦).
(٤) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٧/ ٣٠).
(٥) يُنْظَر: المبسوط للسرخسي (٧/ ٣١).