للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإنّما يوجد ذلك في التمكين؛ لأنّه لا يتمّ ذلك إلا بأنّ يطعم المسكين والكلام محمول على حقيقته.

والشافعي -رحمه الله- يقول: الإطعام يذكر للتمليك عرفاً، بقول الرجل لغيره: أطعمتك هذا الطّعام، أي ملكتكه، والمقصود سد خلة المسكين واغناؤه، وذلك يحصل بالتّمليك دون التمكين.

وَفِي الْإِبَاحَةِ ذَلِكَ، أي الإطعام، كَمَا فِي التَّمْلِيكِ، فيتأدّى الواجب بكلّ واحد منهما، أمّا بالتمليك فإن الأكل الذي هو المنصوص عليه جزء ممّا هو المقصود بالتمليك؛ لأنّه إذا ملك منه فإمّا أن يأكل أو يصرف إلى حاجة أخرى، فيقام هذا التّمليك مقام ما هو المنصوص عليه لهذا المعنى، ويتأدّى بالتمكين لمراعاة عين النصّ، والدّليل عليه أنْ شبّهه بطعام الأهل، فقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (١) وذلك يتأدّى بالتّمليك تارة وبالتمكين أخرى، فكذا هذا؛ لأن حكم المشبّه حكم المشبّه به، وهذا في الإباحة من غير خلاف.

قوله -رحمه الله-: "وَهَذَا"، إشارة إلى قوله: لم يجزه إلا عن يومه، يعني [أنه] (٢) إذا دفع ستين مرًّة لمسكين واحد في يوم واحد بطريق الإباحة لا يجوز من غير خلاف، فقد قيل: لا يجزيه.

وذكر في «المحيط» (٣) وهو الصّحيح فوجه ذلك هو أنّ المعتبر يسد الخُلة (٤)، ولهذا لا يجوز صرفه إلى الغني؛ لأنّه طاعم يملكه وإطعام الطّاعم لا يتحقّق، كما أنّ التمليك من المالك لا يتحقّق، وبعدما استوفى وظيفته في هذا اليوم لا يحصل سدّ خلته بصرف وظيفة أخرى في هذا اليوم إليه، بخلاف كفارة أخرى؛ لأنّ المستوفى في حكم تلك الكفّارة كالمعدوم ولا يمكن أن يجعل مثله في هذه الكفّارة.

وبخلاف الثّوب؛ لأنّ تجدّد الحاجة إليه يختلف أحوال الناس فيه، فلا يمكن تعليق الحكم بعينه لتعذّر الوقوف عليه، فيقام تجدّد الأيام فيه مقام تجدّد الحاجة تيسيراً.

وقد قيل: يجزيه؛ لأنّ التمليك أقيم مقام حقيقة الإطعام والحاجة بطريق التّمليك ليس لها نهاية، فإذا فرّق الدّفعات جاز ذلك في يوم واحد كما يجوز في الأيّام، واستدلّوا على هذا بما ذكر في كتاب الأيمان أنّه لو كسا مسكينًا واحدًا في عشرة أيّام كسوة عشرة مساكين أجزاه؛ لتفرق الفعل وإن انعدم تجدّد الحاجة في كلّ يوم، والدّليل عليه أنّه بعدما أخذ وظيفته في هذا اليوم لو صرف إليه رجل آخر طعام مسكين عن كفارته يجوز، وكذلك إذا صرف إليه ذلك الرّجل طعام مسكين آخر، بخلاف ما إذا دفع بدفعة واحدة؛ لأنّ الواجب عليه تفريق الفعل بالنصّ، فإذا جمع لا يجزيه إلا عن واحد كالحاج إذا رمى الحصيات السّبع دفعة واحدة، كذا في «المبسوط» (٥)، إلا أنّه يمنع من المسيس قبل.


(١) سورة المائدة (الآية/ ٨٩).
(٢) سقطت من (أ).
(٣) المحيط البرهاني في الفقه النعماني (٣/ ٤٣٨).
(٤) الْخُلَّة بالضَّم: الصَّدَاقة والمَحَبَّة الَّتِي تَخَلَّلَتِ القَلْب فَصَارَتْ خِلَالَهُ: أَيْ فِي بَاطِنِهِ. ينظر: (النهاية في غريب الحديث والأثر ٢/ ٧٢)
(٥) المبسوط للسرخسي (٧/ ١٧).