للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فإن قيل: كيف يجب الإحداد والإحداد هو التأسف والتلهّف على فوت النعم، وقد قال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (١) فكان الحديث حينئذٍ معارضاً للكتاب فلا يقبل؟.

قلنا: المراد بما في الآية فرح خاص وأسى خاص، وهو الفرح مع الصباح والأسى مع الصباح هكذا روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- (٢).

ولنا ما روي أن النبي -عليه السلام- «نهى المعتدة أن تخضب بالحناء» (٣) روته أم سلمة رضي الله عنها، وهذا عام في كلّ عدّة، ولأنّها معتدة من نكاح صحيح، فكانت كالمتوفّى عنها زوجها وتأثيره أن الحداد إظهار التأسّف على فوت نعمة النكاح، وذلك موجود في المبتوتة كوجوده في المتوفّى عنها زوجها، كذا في «المبسوط» (٤).

فإن قلت: اسم المبتوتة يتناول المختلعة وغيرها، فكيف تتأسّف المختلعة وقد افتدت نفسها بالمال برضاها لطلب الخلاص منه؟ وكذلك المبانة، كيف يتأسّف فراقه وقد خفاها زوجها بالإبانة وآثر غيرها عليها وهي تظهر السرور بالتخلّص من مثل هذا الزوج دون التأسّف؟.

قلت: شرعية الحداد أثره لفوت النكاح الصحيح بالسنة لا لاعتبار وفاء الزوج وجفائه.

ألا ترى أنّ الزّوج وإن وفى بها إلى أن فارقها بالممات لا يربوا درجة على الوالدين الذين هما سببا وجودها، وحياتها بعد الوجود، فلم يشرع الحداد عليها بفراقهما بالاتفاق، علم بهذا أنّ الحداد غير دائر بمجرّد فوت من له وفاء، بل هو دائر بفوت نعمة النكاح الذي كان سبباً لصيانتها، فعلم بهذا أن الحداد إنّما وجب تعظيمًا لحظر النكاح لا غير وفي هذا لا يتفاوت المختلعة والمبانة.

فإن قيل: لو كان كذلك لوجب الحداد على الأزواج كما وجب على الزّوجات لما أنّ نعمة النكاح مشتركة بينهما.

قلنا: النكاح أصلح في حق الزوجات لما فيه من صيانتهن؛ لأنّهن لحم على وضم ودرور النفقة عليهنّ لأنّهن ضعائف عن التكسب وعوافر عن التقلب، قال شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده -رحمه الله- الحداد ما وجب إلا تبعًا للعدّة، والعدّة تجب على الزّوجات، فكذلك الحداد.


(١) سورة الحديد الآية (٢٣).
(٢) ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (٣/ ٣٥).
(٣) أخرجه أبو داوود في سننه، كتاب الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، (٢٣٠٥)، والنسائي في سننه، كتاب الطلاق، باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر، (٣٥٣٧)، والطبراني في المعجم الكبير (١٠١٣)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب العدد، باب المعتدة تضطر إلى الكحل (١٥٥٣٨).
(٤) المبسوط للسرخسي (٦/ ٥٩).