للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قيل: كما أنّ الظاهر شاهد لها، فكذلك الظّاهر شاهد له -أيضاً-؛ لأنّ النكاح حادث والأصل في الحوادث أن يحال إلى أقرب الأوقات، أو لأنّ الأصل هو العدم فينبغي أن يكون الزائد على أربعة أشهر معدومًا جريًا على الأصل.

قلنا: النّسب ممّا يحتاط في إثباته، فمتى تعارض الظّاهر أن فيه وجب إثباته.

ألا ترى أنّ النّسب يثبت بالإيماء مع قدرته على النطق، وسائر التصرفات لا يثبت به عند ذلك، وظاهر حالها -أيضاً- يتأيّد بظاهر حاله، من حيث أنّه لا يباشر النكاح بصفة الفساد، فإنّ نكاح الحبلى فاسد وهل تحرم على الزّوج بهذا الكلام، ينبغي أن لا تحرم.

فإن قيل: وجب أن تحرّم؛ لأنّ هذا إقرار منه بتزوّجه إياها وهي حُبلى، وصار هذا كما ادّعى أنّه تزوّجها بغير شهود.

وقلنا الفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أنّ النكاح بغير شهود فاسد لا محالة، ونكاح الحبلى ليس بفاسد لا محالة، لجواز أنّها حبلى من الزنا.

والثاني: أنّه وإن أقرّ بالحرمة إلا أن الشّرع كذبه في ذلك، حيث أثبت النّسب منه والإقرار إذا قابله تكذيب من جهة القاضي يبطل، كذا في «الفوائد الظهيرية» (١).

وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، أي: على الاختلاف المذكور في الأشياء الستّة فيما يُبتنى عليها وهو الطّلاق؛ لأنّ الطّلاق حكم متعلّق بالولادة، وشهادة القابلة حجة في إثبات الولادة، فكذلك فيما يتعلّق بها ضمنًا لها؛ لأنّ شهادتين ضرورته في الولادة لعدم حضور الرجال فلا يظهر في حق الطّلاق؛ لأنّه ينفكّ عنها لما أن الطلاق يوجد بدون الولادة، وكذلك الولادة بدون الطّلاق.

فإن قلت: يشكل على هذا جريان اللّعان بنفي الزّوج نسب ولدها منه عند ثبوت الولادة بشهادة القابلة، ولا يتخلّص عنه بأنّ اللّعان هناك بالقذف بالنفي لا بشهادة القابلة، وإني أقول -أيضاً-: الطّلاق ههنا بالولادة لا بشهادة القابلة.

قلت: الفرق بينهما ثابت، وهو أنّ اللعان هناك إنّما يثبت بقذفه بالنفي قصدًا بعد ثبوت النّسب بالفراش القائم عند شهادة القابلة.

وأمّا ههنا لو قلنا بالطّلاق عند شهادة القابلة كانت شهادة القابلة مثبتة لحكمين معًا من غير تراخ لأحدهما عن الآخر، وهما: الولادة ووقع الطّلاق، فإنّه علّق طلاقها بالولادة وشهادة القابلة، وإن كانت مقبولة في أحدهما -لما ذكرنا- لا يلزم أن تكون مقبولة في الآخر لانعدام ما يوجب القبول فيه، فصارت شهادة القابلة ههنا نظيره قول المرأة: حضت فيما إذا علّق الزّوج طلاقها وطلاق ضرّتها (٢) بحيضها، وهما حكمان مقترنان فقُبل قولها في أحدهما وهو طلاق نفسها، دون الآخر وهو طلاق ضرّتها، فكذلك ههنا، ويكون -أيضاً- نظيره ما ذكره الإمام قاضي خان -رضي الله عنه- فقال: وإن جعلت شهادتها حجة في الولادة وضرورة أنّه لا يطّلع عليها الرجال لم تقبل حجة فيما تقبل الفصل في الجملة عن الولادة وإن صار من لوازمها (٣).


(١) ينظر: العناية شرح الهداية (٤/ ٣٦٠).
(٢) الضرتان: امرأتا الرجل، كل واحدة منهما ضرة لصاحبتها. ينظر: لسان العرب (٤/ ٤٨٦).
(٣) ينظر: المبسوط للسرخسي (٦/ ٤٨).