للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: مثل هذا لا يصحّ في صدقة الفطر، فكيف صح ههنا؛ وهو أن كلّ واحد من الكسوة والطّعام منصوص عليه، وما كان منصوصاً عليه في باب لا يصلح بدلاً في ذلك الباب عن غيره، كالثّمر مع الحنطة (١) في صدقة الفطر فإنّه لو أدّى نصف صاع من تمر يبلغ قيمته قيمة نصف صاع من حنطة لا يجوز لما قلنا، وقد ذكرناه في صدقة الفطر؟

قلت: نعم كذلك، إلا أنّ أصحابنا -رحمهم الله- فرقوا بين الكسوة والطّعام وبين التّمر والحنطة فقالوا: إن الطّعام مع الكسوة شيئان مختلفان صورةً وهذا ظاهر ومعنى؛ لأنّ المطلوب من الكسوة في الكفارة ردّ العري، والمطلوب من الطّعام ردّ الجوع، فجاز أن يكون أحدهما بدلاً عن الآخر باعتبار القيمة كالدّراهم مع الطّعام، أما الثّمر مع الحنطة إن كانا شيئين صورة واحد معنى، لأنّ المقصود فيهما واحد وهو ردّ الجوع، فاعتبار الصورة إن كان يجوز أن يكون أحدهما بدلًا عن الآخر، كما في الدّراهم فاعتبار المعنى يمنع لأنّ الشّيء الواحد لا يتصور أن يكون بدلًا وأصلًا. ثم هل يشترط النيّة؟ ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في ظاهر الرواية يجزيه نوى أن يكون بدلًا عن الطّعام أو لم ينو، وعن أبي يوسف -رحمه الله- إذا نوى أن يكون بدلًا عن الطّعام يجزيه عن الطّعام وإن لم ينوه لا يجزيه، وقال زفر -رحمه الله-: لا يجزيه نوى أو لم ينو كذا في الذّخيرة (٢). لأنّه أداها بعد السّبب؛ لأنّها تضاف إلى اليمين والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة. ومن قال: علَّيَ يمينٌ تلزمه الكفارة باعتبار أن التزام السّبب يكون كناية عن الواجب به، (وحجّتنا في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرّحمن بن سمرة -رضي الله عنه- (٣): «لا تسأل الإمارة فإنّك لو أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطّيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيراً منها فائت بالذي هو خير وكفِّر يمينك» (٤) وما رواه الشّافعي -رحمه الله- محمول على التّقديم والتّأخير بدليل ما روينا وهذا المعنيين:


(١) الحِنْطةُ: البُرُّ، أي القمح وَجَمْعُهَا حِنَطٌ. انظر: لسان العرب (٧/ ٢٧٨)، المصباح المنير (١/ ١٥٤).
(٢) انظر: الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (٢/ ١٩٥).
(٣) هو عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن مناف، أبو سعيد القرشير العبشمي، سكن البصرة ومات بها سنة خمسين ويقال سنة إحدى وخمسين. انظر: سير أعلام النبلاء ط الحديث (١٧/ ٤٢٨)، أسد الغابة ط العلمية (٣/ ٤٥٠)، تهذيب التهذيب (٦/ ١٩٠)، الإصابة في تمييز الصحابة (٤/ ٢٦٢).
(٤) عن عبد الرحمنِ بن سَمُرَةَ قال: قال رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَسأَلِ الإِمَارة، فَإِنَّكَ إن أُعطِيتَهَا من غَيرِ مَسأَلَةٍ أُعِنتَ عَلَيها، وإن أُعطِيتَهَا عن مسأَلَةٍ وُكِلتَ إِلَيها، وإذا حَلَفتَ على يَمِينٍ، فَرأَيت غيرها خَيرًا منها، فَأْتِ الذي هو خَيرٌ، وكَفِّر عن يَمينك». صحيح البخاري (٨/ ١٤٧)، كتاب كفارات الأيمان، رقم (٨٤)، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، رقم الحديث (٦٧٢٢)، صحيح مسلم (٣/ ١٢٧٣)، كتاب الأيمان، رقم (٢٧) باب ندب من حلف يمِينًا فرأَى غيرها خيرًا منها، أَن يأتِي الذي هو خيرٌ، ويُكَفِّرُ عن يَمِينه، رقم (٣)، رقم الحديث (١٦٥٢).