للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(ومن حرم على نفسه شيئاً مما يملكه) بأن قال: حَّرمت علىَّ ثوبي هذا! أو طعامي هذا! (لم يصر محرمًا) أي بعينه (وعليه إن استباحه) بأن لبس ذلك الثوب أو أكل ذلك الطّعام (كفارة يمين). وبما ذكرنا من التّأويل بأنّه لم يصر مُحرمًا لعينه خرج الجواب عمّا يرد شبهة بأن قيل: كيف قال وإن استأجر أي عمل فيه معاملة المباح (١) وقد ذكر قبله لم يصر محرمًا ولما لم يصر محرمًا لم يصح فيه لفظ الاستباحة، ولا وجوب الكفارة، ولفظ الاستباحة؛ إنّما يذكر عند تناول الحرام (٢) وكذلك وجوب الكفارة؛ إنّما يكون عند ارتكاب الحرام من وجه؟

قلنا: إنّه لم يصر مُحرمًا لعينه؛ أما هو صار محرمًا لغيره وهو اليمين الثّابت في قوله: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} (٣)، ومثل هذا يتحقق في جميع اليمين المنعقدة على المباح وعلى الطّاعة، بأن قال والله لا يذكر اسم الله فذكر اسم الله ليس بحرام لعينه؛ بل هو طاعة لكن صار حرامًا من حيث تضمنه هتك حرمة اسم الله تعالى، فكان فعله حرامًا لغيره؛ وهو في نفسه طاعة. فإن قلت: في تحريم الحلال لم يتحقّق شيء من ماهية اليمين، ولا يكون يمينًا، ولا يجب فيه ما يجب في اليمين؛ وذلك لأنّ اليمين منحصرة في نوعين ولا ثالث لهما وهما: إما يعظم المقسم به، وهو عند ذكر اسم الله تعالى، أو وقوع ما علقه وهو عند ذكر الشرط والجزاء، وليس في صورة تحريم الحلال التي ذكرناها شيء منهما فلا يكون يمينًا؛ ولأنّه لا ولاية للعبد في تحريم ما حلله الله تعالى؛ فيبطل من حيث يوجد؛ لأنّه لو اعتقد حرامًا للحلال الذي ثبت حله بالدّليل القطعي يكفر.

[٤٢٤/ ب] قلتُ: نعم كذلك إلا أن كلّ معقول/ يتضاءل (٤) عند ظهور النصوص السمعيّة (٥) ويضمحلّ (٦) كل قياس عند بروز أصل الحُجَجَ الشرعية (٧)؛ وهو أنّ الله تعالى قال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (٨) قيل إن النبي -عليه السلام- حرّم العسل على نفسه.


(١) لفظ «المباح» اسم مفعول من «الإباحة» وهي تأتي بعنى الإحلال والإذن في الأخذ والترك.
واصطلاحاً: ما استوى فعله وتركه في الثواب والعقاب من أفعال المكلفين.
انظر: لسان العرب (٢/ ٤١٦)، ميزان الاصول للسمرقندي (ص ٤٥، ٤٤)، (بوح).
(٢) الحرام لغةً: ضد الحلال، من حرُم عليه الشيء حُرُمًا، وحرمة، وحرامًا: إذا امتنع.
انظر: الصحاح (٥/ ١٨٩٥)، لسان العرب (١٢/ ١١٩)، (حرم).
وعند الفقهاء: عبارة عما ثبت النهي عنه بدليل قطعي.
انظر: مجمع الأنهر لشيخي زاده (٢/ ٥٢٣)، مقدمة تحقيق فتح العناية لأبي غدة (ص ١٧).
(٣) سورة التحريم آية: (١).
(٤) تضاءل عن الشيء: أي ضَعُفَ وتقاصر عنه.
انظر: شمس العلوم (٦/ ٤٠٣٦)، أساس البلاغة (١/ ٥٧١).
(٥) النصوص السمعيّة هي: ما دَلَّ السَّمْعُ القَاطِعُ من الكتاب والسُّنة على ثُبُوتِهِ.
انظر: الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (٤/ ٢٨٦).
(٦) يضمحلّ: بمعنى ذهب وتلاشى.
انظر: لسان العرب (١١/ ٣٩٦)، (ضمحل)، موت الألفاظ في العربية للصاعدي (١/ ٤٢٢).
(٧) الحُجَجَ الشَّرْعِيَّة هي: الكتاب والسّنة والإجماع والقيَاس. انظر: أصول السرخسي (١/ ٢٧٩).
(٨) سورة التحريم آية: (٢).