للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلنا: تلك الآية لا تقتضي الإذن في كلّ مرّة من الدّخول بصيغة قوله [إلا أن يؤذن] بل اشتراط الإذن هناك في كلّ مرّة؛ إنّما علم بدليل آخر وهو أن دخول دار إنسان من الآدمي حرام بغير إذنه للاحترام ولقوله تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (١) ووجوب الاستئناس في كلّ مرّة، فكيف في حق بيوت النبي -عليه السلام- الذي هو أفضل الخلائق وهو واجب التّعظيم وواجب الاجتناب عمّا يكرهه؟ أو نقول: إنَّ اشتراط الإذن هناك في كلّ مرةٍ من الدّخول إنّما عُلِمَ بآخر الآية وهو قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} (٢) ومعنى الإيذاء موجود في كلّ ساعة، فشرط الإذن في كلّ مرّة إلى هذا أشار في شروح الجامع فينتهي اليمين به أي بالإذن مرّة، وهذه تسمّى يمين الفور أي يمين الحال وهو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت، فاستعير/ للسّرعة ثم سمّيت به الحالة التي لا ريث فيها ولا لبث، فقيل: جاء فلان وخرج من فوره أي من ساعته، وفي الصّحاح ذهبت في حاجة ثم أتيت فلانًا من فوري، أي قبل أن أسكن والتّحقيق الأوّل (٣) كذا في المغرب.

[٤٢٨/ ب] وذكر في الفوايد الظهيريّة يمين الفور مأخوذ من فوران القدر فسمّيت هي بهذا الاسم باعتبار فوران الغضب.

وتفرد أبو حنيفة -رحمه الله- بإظهاره أي لم يسبق أحد قبله باستنباط هذه اليمين فالنّاس قبله كانوا يقولون اليمين نوعان مؤبّدة ومؤقتة لفظًا ثم استنبط أبو حنيفة -رحمه الله- هذا النّوع الثّالث وهو المؤبد لفظًا والموقت معنى، وإنّما أخذه من حديث جابر -رضي الله عنه- وابنه «حين دعيا إلى نصرة رجل، فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا» (٤)

واعتبر في ذلك العرف فإن الحالف في العادة يقصد بهذا اللّفظ منعها عن الخرجة التي تهيّأت إلا من الخروج على التأييد، فإذا عادت فقد تركت تلك الخرجة وانتهت اليمين، فلا يحنث بعد ذلك وإن خرجت.

وقد بيّنا أن العرف معتبر في اليمين، وعلى هذا إذا أراد الرّجل أن يضرب عبده فقال له رجل إن ضربته فعبدي حرّ فتركة، ثم ضربة فإنّه لا يحنث؛ لأنّ المقصود منعه من الضّرب الذي تهيّأ له وقصده. (وكذلك إذا قال للرّجل اجلس فتغدى (٥) معي فقال إن تغديت إلى آخره) كذا في الجامع الصّغير لشمس الأئمّة السّرخسي -رحمه الله- (٦).


(١) سورة النور آية: (٢٧).
(٢) سورة الأحزاب آية: (٥٣).
(٣) انظر: المغرب (١/ ٣٦٧)، والصحاح تاج اللغة (٢/ ٧٨٣).
(٤) لم أجد هذا الأثر الا في العناية (٥/ ١١٤)، وتبيين الحقائق (٣/ ١٢٤).
(٥) الأصل اللغوي (فتغدَّ) بحذف حرف العلة، لأنه جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة، فإذا نطقه المتحدث وام يحذفه اعتبره الفقهاء ليس جواب الشرط.
(٦) انظر: الهداية (٢/ ٣٢٤).