للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفيما قال من النظير في الكتاب فيمن حلف لا يأكل شعيرًا فأكل الحنطة فيها حبات شعير يحنث، نَظَرًا؛ لأنّه لما أكلهما حبةً حبّة كان أكلًا للشّعير منفردًا، فلو أكل في البسر المذنب أو الرّطب المذنب جزءًا فجزءًا منفردًا، بأن ميّز الرّطب المذنِب أجزاءً فأكل كلّ جزء منها منفردًا، يحنث بالاتفاق، فكذا في الحنطة مع الشّعير؛ فإذًا لا خلاف بينهم من هذا الوجه؛ وإنّما الخلاف في الأكل بصفة الاختلاط إلى هذا أشار في الفوايد الظهيريّة (١) الكباسة: (٢) بسرٌ فيها رطَب.

(وإن أكل لحم خنزير (٣) أو إنسان يحنث)؛ لأنّه لحم حقيقي.

فإن قيل: الكفّارة فيها معنى العبادة، فلا يناط وجوبها بالحرام المحض، فأكل لحم الخنزير والإنسان حرام محض، فكيف تعلّق وجوبها به؟ قلنا: الحلّ والحرمة إنّما يراعيان في السّبب لا في الشّرط والسّبب في وجوب كفارة اليمين في الحقيقة اليمينُ، وإن كان وجوب الكفارة متعلّقاً باليمين والحنث، ألا ترى أن ضمان نصف المهر على شهود اليمين، لا على شهود الشّرط إذا رجعوا بعد حكم القاضي بالطّلاق، فيمن قال لامرأته قبل الدّخول بها إن دخلت الدّار فأنت طالق، فوجوب الطّلاق في اليمين بالشّرط، والجزاء قائم مقام وجوب الكفارة في اليمين بالله؟

فعلم بهذا أن أصل وجوب الكفارة باليمين بالله لا بالحنث، وإنّما لم يجز تقديم الكفارة على الحنث ليكون سبب الكفارة موصوفاً بالإباحة مع الحظر، الإباحة هي اليمين والحظر هو الحنث فيها، ولكن فرق مع ذلك بين اليمين والنّذر في أنّ انعقاد اليمين يصح ابتداء في المعصية، بخلاف النّذر حتّى لو قال والله لَيَشرَبَنَّ الخمر في هذا اليوم فمضى اليوم ولم يشرب، تجب الكفارة فصار امتناعه عن المعصية بعد اليمين بالله سبباً للكفّارة، بخلاف النّذر فإنّه لا يصحّ في المعصية.

والفرق أن تمام وجوب الكفّارة في اليمين بالله ليس بعينها؛ بل لمعنى في غيرها؛ وهو هتك اسم الله تعالى، وهو لا يتفاوت بين أن يكون يمينه في الطّاعة أو في المعصية، فإن ذلك دائر بالهتك لا بكونه طاعة، ولا بكونه معصية بخلاف النّذر، فإنّه إيجاب على نفسه ممّا شرعه الله تعالى على العباد ولم يشرع الله تعالى المعاصي، فلم يصح نذره في المعاصي فلو نذر في المعصية لم يصادف نذره محلّه فلم ينعقد لذلك موجبًا للمنذور.


(١) انظر: تبيين الحقائق (٣/ ١٢٦).
(٢) الْكِبَاسَةُ: هي عُنقُودُ التَّمرِ، القِنوُ وهو بالفارِسِيَّة خُوشَه خُرمًا.
انظر: المغرب (ص: ٣٠٨)، طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية (ص: ٧٧).
(٣) خنزير: هُوَ من الوَحْشِ العادِي، وَهُوَ حَيوانٌ خَبيثٌ.
انظر: تاج العروس (١١/ ١٥٦)، معجم اللغة العربية المعاصرة (١/ ٧٠١)، (خنزر).