للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولئن سلّمنا؛ فالفرق بينهما ثابت، وهو أن الخروج يتنوع إلى نوعين: مَدِيد وقَصِيرَ وهما مختلفان اسمًا وأحكامًا، فإنّ المديد يسمّى سفرًا وأحكامه على خلاف أحكام الخروج القصير، فإذا نوى أحد النّوعين صحّت نيّته، وذلك لأن الفعل يحتمل التّنويع، ولا يحتمل التّخصيص، ألا ترى أنّه لو حلف لا يتزوّج ونوى حبشية أو رومية يصدق، ولو نوى امرأة بعينها لا يصدّق؟ لأنّ الأوّل نوع والثّاني لا، فلما كان كذلك كان نيته السّفر في قوله إن خرجتُ نيَّةً في أحد نوعي الخروج فيصحّ حتّى لو نوى الخروج إلى مكان بعينه كبغداد مثلًا لم تصحّ نيّته؛ لأنّ المكان غير مذكور فلم تصح نيّة التّخصيص.

وأما الجواب عن المساكنة: فإنّه (إنما صحّت نية المساكنة في بيت واحد؛ لأنّه نوى أتم ما يكون من المساكنة، فإنَّ أعم ما يكون من المساكنة في بلده، والمطلق في المساكنة في العرف في دار واحدة وأتم ما يكون من المساكنة في بيت واحد، فهذه النيّة أيضاً يرجع إلى بيان نوع المساكنة الثابتة بصيغة كلامه) كذا ذكره الإمام السّرخسي (١) والتمرتاشي والمرغيناني -رحمهم الله- (٢).

[٤٣٢/ ب] (الكرع: يتناول الماء بالفم من موضعه من غير أن يشرب بِكفيه ولا بإناء، يقال كرع الرجل في الماء وفي الإناء إذا مد عنقه نحوه ليشربه، ومنه كره عكرمة الكرع في النّهر؛ لأنّه فعل البهيمة يدخل فيه/ أكارعه والكراع مستدق السّاق كذا في الصّحاح (٣) والمغرب (٤) فكان معنى قوله: لم يحنث حتى يكرع منها كرعًا أي لا يحنث عنده (٥) حتّى يضع فاه على دجلة (٦) بعينها، ويشرب وهو الشّرط أي كونه منسوبًا إلى دجلة هو شرط الحنث، وهي مستعملة أي عرفًا وشرعًا أمّا عرفًا فظاهر.

(وأمّا شرعًا فهو ما جاء في الحديث أنّ النبي -عليه السلام- قال لقوم نزل عندهم: «هل عندكم ماء بات في الشن وإلا كرعنا» (٧) وقد بينا أنّ الحقيقة متى كانت مستعملة فاللّفظ يُحمل عليها دون المجاز، والحقيقة مراده ههنا، فإنّه لو كرع يحنث وهو حقيقة الشرب من دجلة) كذا في المبسوط (٨).


(١) انظر: المبسوط للسرخسي (٨/ ١٦٠).
(٢) انظر: البناية (٦/ ١٨٧).
(٣) انظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (٣/ ١٢٧٥).
(٤) انظر: المغرب (١/ ٤٠٦).
(٥) أي عند ابي حنيفة -رحمه الله-.
(٦) دِجْلة اسمٌ مَعْرِفَةٌ لِنهر العراق، وفي الصِّحَاحِ: دِجْلة نَهْرُ بَغْدَادَ.
انظر: لسان العرب (١١/ ٢٣٦)، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لابن شمائل القطيعي (٢/ ٥١٥).
(٧) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخل على رَجُلٍ من الأَنصارِ ومعه صاحبٌ لهُ، فقال له النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إن كان عندك ماءٌ بَاتَ هذه اللَّيلة في شَنَّةٍ وإِلَّا كَرَعنَا» قال: والرَّجل يُحَوِّلُ الماء في حَائِطه، قال: فقال الرَّجل: يا رسول الله، عندي ماءٌ بَائِتٌ، فانطلق إلى العَريش، قال: فانطلق بهما، فَسَكب في قَدَحٍ، ثُمَّ حلب عليه من دَاجِنٍ له، قال: فشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثمَّ شرب الرَّجُلُ الَّذي جاء معه. رواه البخاري (٧/ ١١٠)، كتاب الأشربة، رقم (٧٤)، باب شَوْبِ اللَّبَن بالماء، رقم الحديث (٥٦١٣).
(صاحب له) هو أبو بكر -رضي الله عنه- (شنة) قربة بليت وذهب شعرها -لأنها في الأصل من جلد -من كثرة الاستعمال (كرعنا) من الكرع وهو تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف (يحول الماء) ينقله من مكان إلى مكان آخر ليعم أشجاره بالسقي (حائطه) بستانه من النخيل (داجن) الشاة التي تكون في البيوت ولا تخرج إلى المرعى.
(٨) انظر: المبسوط للسرخسي (٨/ ١٨٧).