للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا معنى قوله: ولهذا يحنث بالكرع إجماعًا (١)، فإن قيل: لا نسلم بأن الحنث في الكرع باعتبار الحقيقة، بل باعتبار العمل بعموم المجاز كما في قوله: لا يضع قدمه في دار فلان، ولما كان كذلك وجب أن يحنث فيما إذا شربه من دجلة بالاغتراف (٢) بالإناء، لما أنّ الحكم في عموم المجاز كذلك.

قلنا: الكرع من الفرات (٣) مستعمل، والحكم يترتب على الحقيقة دون المجاز إذا كانت الحقيقة مستعملة لما أنّ إضافة الحكم إلى الحقيقة أولى؛ لأنّها هي الأصل في الكلام.

بخلاف قوله: [لا يضع قدمه في دار فلان] فإنّ ذلك صار عبارة عن الدّخول في العُرَف، فلذلك لم يختلف فيه هيئة الدّاخل في الحنث، لوجود الدخول، لما أنّ هذا اللّفظ تجرّد استعاره للدّخول لا غير، حتّى إنّه لو كان مستلقيًا (٤) أو قاعدًا أو خارج الدّار فأدخل قدميه فوضعهما في الدّار لا يحنث، لأن الرجل إنّما يسمى داخلًا؛ إذا كان معتمدًا على قدميه داخل الدّار قائمًا أو قاعدًا، أو لم يوجد فلا يحنث لعدم الدّخول. إلى هذا أشار في الذّخيرة (٥) في فصل الخروج والإتيان.

وأمّا ههنا فقال: لا يشرب من دجلة، ومن للتبعيض، أو لابتداء الغاية فكانت حقيقته أن يضع فاه على بعض الدجلة فيشربه، أو أن يكون ابتداء شربه من دجلة وهي مستعملة على ما ذكرنا، فيجب أن تكون الحقيقة مرادة لا غير، لأنّ موضع الحقيقة حقيق بأن يراد فتنحى المجاز حينئذٍ؛ لأنّهما لا يجتمعان.


(١) دعوى الإجماع فيها نظر، لأنه اختلف المشايخ في الكرع عندهما. قال الإمام العتابي في " شرح الجامع ": قال بعضهم: لا يحنث بالكرع عندهما لئلا يكون جمعًا بين الحقيقة والمجاز. وقال بعضهم: يحنث وهو الصحيح لعموم المجاز، وليس هو يجمع بين الحقيقة والمجاز فمنعوا، أي الحقيقة المستعملة، هذا إذا لم يكن له نية، فإن نوى الكرع فعندنا لا يحنث بالمجاز ديانة وقضاء، لأنه نوى حقيقة كلامه، وإن نوى العرف فعنده صدق ديانة، لأنه يحتمل ولا يصدق قضاء، لأنه خلاف الحقيقة.
انظر: البناية (٦/ ١٨٨).
(٢) الْغُرْفَةُ: بِالضَّمِّ الْمَاءُ الْمَغْرُوف وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّة مِنْ الْغَرْفِ. انظر: المغرب (١/ ٣٣٩)، الصحاح (٤/ ١٤٠٩).
(٣) الفُراتُ: اسْمُ نَهَرِ الْكُوفَةِ، وهو نهر عظيم بجانب دجلة بالعراق.
انظر: لسان العرب (٢/ ٦٥)، معجم البلدان (٤/ ٢٤١).
(٤) مستلقياً: "الاستلقاء": استلقى على قفاه: أي ألقى قفاه على الأرض.
انظر: مختار الصحاح (١/ ٢٨٤)، (لقي)، شمس العلوم (٩/ ٦٠٩٩)، (الاستلقاء).
(٥) انظر: الدر المختار (٣/ ٧٤٩).