للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمّا معناه شرعًا: فإنّ التَّسَرِّي عبارة عن التحصين، والجماع طلب الولد أو لم يطلب في قول أبي حنيفة ومحمّد -رحمهما الله- وعلى قول أبي يوسف -رحمه الله- لابدّ من طلب الولد مع ذلك حتّى لو وطئها وعزل عنها لا يكون تسرّياً عنده، ولما ثبت هذا قلنا أن التَّسَرِّي على هذا التفسير كما يكون تمليك اليمين يكون تمليك النكاح فكان من ضرورته ملك المتعة لا ملك الرقبة فلا يصير ذاكراً ملك اليمين كما لو قال لجارية الغير إذا جامعتك فأنت حرّ فاشتراها فجامعها لا تعتق لما قلنا كذلك ههنا بخلاف الطّلاق؛ لأنّه لا يملك التّطليق إلا بملك النكاح فيصير ذاكراً ملك النكاح كذا ذكره الإمام قاضي خان -رحمه الله- (١) فإنّه يقول التَّسَرِّي لا يصحّ إلا في الملك فكان ذكره ذكراً للملك، فإن قيل هذا قول بالاقتضاء (٢) وزفر -رحمه الله- لا يقول بالاقتضاء حتّى أن من قال لآخر أعتق عبدك عنّي بألف فأعتقه كان العتق واقعًا عن المأمور في قول لا عن الآمر والمسألة في المنظومة وغيرها.

قلنا: إثبات الملك هنا بدلالة اللّفظ لا باقتضاء والفرق بينهما هو أنّ الثّابت دلالة ما يكون مفهومًا من اللّفظ بلا تأمّل واجتهاد كما كان النّهي عن الضرب والشتم وسائر الأفعال المؤذية مفهومًا من النّهي عن التّأفيف ولا كذلك المقتضي لأن المقتضى لا يفهم من ذكر المقتضى ثم إذا قيل فيما نحن فيه عند فلان سريّة يراد بها جارية مملوكة من غير تأمّل فلمّا كان الملك مفهومًا من التَّسَرِّي بلا تأمّل واجتهاد كان الملك ثابتًا بطريق الدّلالة لا بطريق الاقتضاء ولكنّا نقول السّرية فعليه من البسر وهو الوقاع على ما ذكرنا وهو لا يفتقر في التحقّق إلى ملك اليمين فلا ينعقد اليمين كذا في الفوايد الظهيرية (٣).

وصَارَ كما إذا قال لأجنَبِيَّةٍ إن طلَّقتُك فَعَبدِي حُرٌّ، فكان تقديره إن تزوّجتك وطلقتك فعبدي حرّ فكذا هنا معناه إن ملكت جارية وتسريتها فهي حرّة، وَلَنَا أنَّ المِلكَ يصيرُ مذكُورًا ضَرُورَةٌ صِحَّةُ التَّسَرِّي بيان هذا أن إيجاب العتق لا يصحّ إلا أن يكون في الملك أو مضافاً إلى الملك أو سببه فواحد

[٤٣٨/ ب] منها ليس بموجود ههنا فبطل قوله إن تسرّيت جارية فهي حرّة لانعدام ثبوت الملك من حيث العبارة/ والدّلالة فلو ثبت الملك هنا إنّما يثبت ضرورة صحّة التَّسَرِّي فحينئذ كان الملك ثابتًا بطريق الاقتضاء والثّابت بطريق الاقتضاء ثابت بطريق الضرورة وما كان ثابتًا بطريق الضّرورة يكون ثبوته بقدر الضّرورة ولا يثبت فيما وراء الضّرورة أصله قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (٤).


(١) انظر: تبيين الحقائق (٣/ ١٤٦).
(٢) الاقْتِضَاءُ: هو عِبارَةٌ عن قبضِ مالٍ مضمُونٍ من مِلكِ الغَيرِ. انظر: المبسوط للسرخسي (١٨/ ١٠٨).
(٣) انظر: تبيين الحقائق (٣/ ١٤٥ - ١٤٦).
(٤) سورة البقرة: (١٧٣).