للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وكان شمس الأئمة الحلواني -رحمه الله- يفتى بجوازه في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك، وكان يزعم أنه مروي عن أصحابنا وهكذا من الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري - رحمه الله - أنه كان يفتي بجواز هذا البيع، وكان يقول: أجعل الموجود أصلاً في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعاً، ولهذا شرط أن يكون الخارج أكثر.

وقال شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله-: "والأصح عندي أنه لا يجوز؛ لأن المصير إلى هذا الطريق إنما يكون عند تحقق الضرورة، ولا ضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه أن يبيع أصول هذه الأشياء (١) مع ما فيها من الثمرة، وما يتولد بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، وإن كان البائع لا يعجبه (٢) بيع الأشجار فالمشتري يشتري الثمار الموجودة ببعض الثمن، ونؤخر العقد في الباقي إلى وقت وجوده، أو يشتري الموجود بجميع الثمن، ويحل له البائع الانتفاع كما يحدث، فيحصل مقصودهما بهذا الطريق، ولا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم" (٣).

وحيلة أخرى: أن يشتري أشجار البطيخ والباذنجان ببعض الثمن، ويستأجر الأرض ببعض الثمن مدة معلومة؛ لتملك ما يحدث منه؛ وليتمكن من إبقاء الأشجار، كذا في الذخيرة والمغني (٤).

وذكر في المبسوط: "وشرى الثمار قبل أن يصير منتفعاً بها لا يجوز؛ لأنه إذا كان بحيث لا يصح لتناول بني آدم، أو علف الدواب، فهو ليس بمال متقوّم، فإن صار منتفعاً به، ولكن لم يبد صلاحها بعد، فإن كان لا يؤمن (٥) العاهة والفساد، وعليه فاشتراه بشرط القطع: يجوز، وإن اشتراه بشرط الترك: لا يجوز، وإن اشتراه مطلقاً يجوز عندنا؛ لأن مطلق البيع يقتضي تسليم المعقود عليه في الحال، فهو وشرط القطع سواء" (٦).

وعند الشافعي لا يجوز هذا العقد (٧) «لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وحتى تزهى، أو قال: حتى تؤمن العاهة» (٨) وتأويله عندنا في البيع بشرط الترك والمراد به النهي عن بيعها سلماً، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أرأيت لو أذهب الله الثمرة، لِمَ يستحل أحدكم مال أخيه؟» (٩)، وإنما يتوهم هذا إذا اشترى (١٠) بشرط الترك إلى أن يبدو صلاحها، فأما إذا اشتراها بعد ما بدا صلاحها إلا أنها لم تدرك بعد بشرط القطع فجاز، وكذلك مطلقاً، ويؤمر بأن يقطعها في الحال عندنا بمقتضى مطلق العقد، وعند الشافعي (١١) يتركها إلى وقت الإدراك؛ لأنه المتعارف بين الناس.


(١) "الأشجار" في (ب).
(٢) "يحب" في (ب).
(٣) المحيط البرهاني (٦/ ٣٣٤).
(٤) البحر الرائق (٥/ ٣٢٥).
(٥) "يأمن" في (ب).
(٦) قال في الهداية: "ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها، أو قد بدا جاز البيع؛ لأنه مال متقوّم، إما لكونه منتفعاً به في الحال، أو في الثاني، وقد قيل: لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها، والأول أصح، وعلى المشتري قطعها في الحال، تفريغاً لملك البائع، وهذا إذا اشتراها مطلقاً أو بشرط القطع". المبسوط للسرخسي (١٢/ ١٩٣)، الهداية في شرح بداية المبتدي (٣/ ٩٤٦).
(٧) الأم للشافعي (٣/ ٤٨)، الشرح الكبير (٤/ ٣٤٥)، مختصر المزني (٨/ ١٧٧).
(٨) أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب "النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع" برقم (١٥٣٥)، (٣/ ١١٦٥)، والترمذي، أبواب البيوع، "باب ما جاء في كراهة بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها"، برقم (١٢٢٧)، (٣/ ٥٢١)، والبيهقي في الصغرى، كتاب البيوع، باب "الوقت الذي يحل فيه قطع الثمار"، برقم (١٨٩٨)، (٢/ ٢٥٢).
(٩) أخرجه البخاري بلفظ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، فقيل له: وما تزهي؟ قال: حتى تحمرّ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه»، كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ثم أصابته عاهة فهو من البائع، برقم (٢١٩٨)، (٣/ ٧٧)، وأخرجه مسلم، كتاب المساقاة، "باب وضع الجوائح"، برقم (١٥٥٥)، (٣/ ١١٩٠). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. المستدرك على الصحيحين (٢/ ٤٢).
(١٠) "اشتراها" في (ب).
(١١) قال أبو الحسن البغدادي: "قال الشافعي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك عن حميد عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: يا رسول الله وما تزهي؟ قال: «حتى تحمر». وروى عنه -صلى الله عليه وسلم- ابن عمر: «حتى يبدو صلاحها» وروى غيره: «حتى تنجو من العاهة» (قال) فبهذا نأخذ وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا منع الله جل وعز الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» دلالة على أنه إنما نهى -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمرة التي تترك حتى تبلغ غاية إبانها، لا أنه نهى عما يقطع منها، وذلك أن ما يقطع منها لا آفة تأتي عليه تمنعه إنما يمنع ما يترك مدة يكون في مثلها الآفة، كالبلح، وكل ما دون البسر، يحل بيعه على أن يقطع مكانه". قال الماوردي: قد ذكرنا في الباب الماضي الحكم في بيع النخل دون الثمرة، وفى بيع الثمرة مع النخل، وهذا الباب مقصور على بيع الثمرة دون النخل، ولا يخلو حال الثمرة المبيعة من أحد أمرين: إما أن تكون بادية الصلاح، أو غير بادية الصلاح، فإن كانت غير بادية الصلاح فلا يخلو حال بيعها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تباع بشرط التبقية. والثاني: أن تباع بشرط القطع. والثالث: أن تباع بيعاً مطلقاً. فأما القسم الأول، وهو أن تباع بشرط التبقية والترك فبيعها باطل لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل وما تزهي قال: «حتى تحمر». وروى سعيد عن جابر قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تباع ثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح، قال: «تحمار وتصفار ويؤكل منها»، وأما القسم الثاني: وهو أن تباع بشرط القطع فالبيع جائز؛ لأنه لا منع من بيعها لأن تنجو من العاهة، وأن لا تعطب فيأخذ الرجل ملك أخيه. وكان اشتراط قطعها يؤمن معه عطبها وحدوث العاهة بها صح البيع، فلو سمح البائع بعد اشتراط القطع على المشتري بترك الثمرة إلى بدو الصلاح جاز؛ لصحة العقد، ولو طالبه بالقطع لزمه ذلك. وأما القسم الثالث، وهو أن تباع بيعاً مطلقاً لا يشترط فيه التبقية والترك، ولا يشترط فيه القطع، فمذهب الشافعي -رحمه الله- أن البيع باطل". الحاوي الكبير (٥/ ١٩١)، المهذب (٢/ ٤٤)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (٥/ ٢٥٣).