للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

اعلم أن هذا الاختلاف الذي ذكره في الكتاب في البيع بالفلوس، فخالف الرواية للأسرار والمبسوط وشرح الطحاوي (١)، حيث ذكر بطلان البيع عند كساد الفلوس في هذه الكتب من غير خلاف بين أصحابنا الثلاثة، فقال في الأسرار (٢): إذا اشترى شيئاً بفلوس في الذمة فكسدت قبل القبض بطل الشراء عندنا، وقال زفر: لا يبطل؛ لأنه تحت الفساد، إلا العجز عن تسليمه، والعقد لا يبطل بالعجز عن تسليم البدل، كما لو أبق العبد، وكما لو أسلم في الرطب فانقطع أوانه، وكمن اشترى عصيراً فتخمر قبل القبض، بل أولى منه؛ لأن التخمر يسقط مالية العين وقيمته أصلاً، والكساد لا، إلا أنا نقول: أن هلاك المثمن قبل القبض يبطل العقد، فكذلك هلاك الثمن؛ لأن العقد عقد معاوضة، لا ينعقد الأصل كالملك على سبيل المساواة وقوعًا، وكذلك بقاء ومالية الثمن في الفلوس كانت بالرواج.

وإذا كسدت ذهبت العلة فهلكت المالية، كمالية العبد لما كانت بحياته فإذا ذهب الحياة بالموت ذهبت المالية، وهذا بخلاف إباق العبد؛ لأنه مال مملوك حيث هو، وإنما بعد عن يد البائع فعجز عن تسليمه، وبخلاف من اشترى عصيراً فتخمر؛ لأن العصير عين مشار إليه، وبالتخمر تبدل وصفه لا عينه، وهذا التبدل لا يبطل مسلك العين، والعين مشار إليها باقية، وملكه منها باق، لكنه عجز عن تسليمها بمنع الشرع من ذلك، ولم يبطل العقد بنفس العجز، كالعبد الآبق، إلا أن المشتري يخير لتغير الوصف، فأما البدل في مسألتنا فموصوف في الذمة بالثمنية، فصار هلاك هذا الوصف والعقد المتعلق به بمنزلة هلاك العين.

وفي شرح الطحاوي (٣): ولو اشترى مائة فلس بدرهم، فقبض الفلوس أو الدراهم، ثم نقد [تفرق] فأجاز البيع؛ لأنهما تفرقا عن عين بدين، فإن كسدت الفلوس بعد ذلك فإنه ينظر؛ إن كان الفلس هو المقبوض فلا يبطل البيع؛ لأن كساد الفلوس بمنزلة هلاكها، وهلاك المعقود عليه بعد القبض لا يبطل البيع، ولو كانت الفلوس غير مقبوضة بطل البيع استحسانًا؛ لأن كساد الفلوس بمنزلة هلاكها، وهلاك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع، والقياس أن لا يبطل؛ لأنه قادر على أداء ما وقع عليه العقد، ولو اشترى فاكهة أو شيئًا بعينه بفلوس، ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها، وقد قبض المبيع فسد البيع، وعليه أن يرد المبيع، وهكذا أيضًا ذكر في المبسوط (٤) وقال: ولو اشترى فاكهة بالفلوس، وقبض ما اشترى، ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها، فالبيع سينقض استحسانًا؛ لأنها تبدلت معنى حين خرجت من أن يكون ثمنًا، وماليتها كانت بصفة الثمنية ما دامت رايجة، فبفواتها تفوت المالية، ولهذا يبطل العقد، ثم إنما قيد بالكساد؛ لأنها إذا غلت أو رخصت كان عليه رد المثل بالاتفاق، كذا في شرح الطحاوي (٥) وغيره.


(١) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (٤/ ١٤٣).
(٢) العناية شرح الهداية (٧/ ١٥٦).
(٣) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (٤/ ١٤٢).
(٤) المبسوط (١٤/ ٢٨).
(٥) الجوهرة النيرة (١/ ٢٢٤).