للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومذهب أبي حنيفة - رحمه الله - هو العزيمة؛ فالمقصود من الكتاب أن يتذكَّر إذا نظر فيه؛ لأنَّ الكتاب للقلب كالمرآة للعين؛ وإنَّما يعتبر المرآة ليحصل الإدراك بالعين؛ وإذا لم يحصل كان وجوده كعدمه، فكذلك التذكَّر بالقلب عند النَّظر فيه؛ فإذا لم يتذكَّر كان وجوده كعدمه، وهذا؛ لأنَّ الكتاب يُزوَّرُ ويُفتَعَلُ به، والخطُّ يشبه الخطَّ، والخاتمُ يشبه الخاتمَ.

وليس للقاضي أن يقضي إلا بعلم، وبوجود الكتاب لا يستفيد العلم مع احتمال التزوير والافتعال به.

والثاني: أنَّ في الشَّاهد إذا وجد شهادته في صكٍّ، وعلم أنَّه خطَّه وهو معروف؛ ولكن لم يتذكَّر الحادثة.

والثالث: إذا سمع الحديث فوجده مكتوباً بخطِّه، ووجد سماعه مكتوباً بخط غيره، وهو خطٌ معروفٌ؛ ولكنَّه لم يتذكَّر في الفصول الثَّلاثة عند أبي حنيفة - رحمه الله - (١)، ليس له أن يعتمد الكتاب، ولهذا قلَّت روايته؛ لأنَّه كان يشترط في روايته الحفظ من حين يسمع إلى أنْ يروي، وإليه أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نضَّر الله امرأ سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً، فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَّا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَن لَم يَسمَعهَا» (٢).

ومحمد/ في الفصول الثَّلاثة أخذ بالرُّخصة؛ للتيسير على الناس.

وقال: يَعتمد خَطُّهُ إذا كان معروفاً، وأبو يوسف/ في مسألة القاضي ورواية الأخبار أخذ بالرُّخصة؛ لأنَّ المكتوب كان في يده.

وفي مسألة الشَّهادة أخذ بالعزيمة، فقال: الصَّكُّ الذي فيه الشَّهادة كان في يد الخَصم، فلا يأمن الشَّاهد التَّغيير والتَّبديل فيه؛ فلا يعتمد خطُّه في الشَّهادة ما لم يتذكَّر الحادثة.

وإن وجد القاضي سجلاً في خريطته؛ ولم يتذكَّر الحادثة، فهو على الخلاف الذي بيَّنا، وإن نسي قضاءه ولم يكن سجَّل؛ فشهد عنده شاهدٌ أنَّك قضيت بكذا لهذا على هذا؛ فإن تذكَّر أمضاه، وإن لم يتذكَّر؛ فلا إشكال أنَّ على قول أبي حنيفة - رحمه الله - لا يقضي بذلك، وقيل على قول أبي يوسف لا يعتمد ذلك، وعند محمد - رحمه الله - (٣) يعتمد ذلك فيَقضِي به، وعلى هذا من سمع غيره حديثاً، ثم نسي ذلك راوي الأثر فسمعه ممن يروي عنه، فعند أبي يوسف - رحمه الله - ليس له أن يعتمد رواية الغير عنه كما لا يفعل، وذلك شاهد الأصل إذا شهد عنده شاهد الفرع على شهادته، وعن محمد - رحمه الله - له أن يعتمد ذلك للتيسير من الوجه الذي قرَّرنا.


(١) سقط من «س».
(٢) بهذا اللفظ أخرجه: أحمد في المسند (٤/ ٨٠)، رقم (١٦٧٨٤)، الحاكم في المستدرك (١/ ١٦٢)، كتاب العلم، رقم (٢٩٤)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والدارمي في سننه (١/ ٣٠٢)، كتاب العلم، باب الاقتداء بالعلماء، رقم (٢٣٤)، وقال: «إسناده ضعيف؛ ولكن الحديث صحيح».
(٣) سقط من «س».