للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

«وإنَّما يستفيد العلم بمعاينة السَّبب، أو بالخبر المتواتر.

فأمَّا بالتَّسامع؛ فلا يستفيد العلم، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (١)، وحكم المال أخفُّ من حكم النِّكاح.

فإذا كانت الشَّهادة على المال بالتَّسامع لا تجوز؛ ففي النكاح أولى.

وفي التَّسامع القاضي والشَّاهد سواءٌ، ثم لا يجوز للقاضي أن يقضي بالتَّسامع؛ فكذلك لا يجوز للشاهد/ إلا أنَّا استحسنَّا جواز الشَّهادة على هذه الأشياء الأربعة، وهي: النَّسب، والنِّكاح، والقضاء، والموت؛ لتعامل الناس في ذلك واستحسانهم.

ألا ترى أنَّا نَشهد أنَّ عمر بن الخطاب، وعليَّ ابن أبي طالب؛ فإنَّهما ماتا ولم ندرك شيئاً من ذلك، ونشهد أنَّ فاطمة -رضي الله عنها- زوجة علي، وأنَّ أسماء امرأة أبي بكر -رضي الله عنهم-، ونشهد أنَّ شريحاً (٢) - رحمه الله - كان قاضياً، ونشهد أنَّهم قد ماتوا ولم ندرك شيئاً من ذلك.

ثم هذه أسباب يقترن بها ما يشتهر، فإنَّ النَّسب يشتهر بالتَّهنئة، والموت بالتَّعزية، والنِّكاحُ بالشُّهود، والوليمة، والقضاء بقراءة المنشور؛ فنزلت الشُّهرة فيها منزلة العَيان في إفادة العلم بخلاف الأموال وغيرها.

يوضِّحه أنَّ هذه الأشياء قلَّما يُعاين سببها حقيقةً، فسبب النَّسب الولادة، ولا تحضرها إلا القابلة؛ وسبب القضاء تقليد السُّلطان ولا يعاين ذلك إلا الخَواصُّ من النَّاس، فلو لم تجز الشَّهادة عليها بالتَّسامع؛ أدَّى إلى الحرج، بخلاف البيوع وغيرها، فإنَّه كلام يسمعه كل [أحدٍ] (٣).

وسبب المِلك هو اليد، وهو ما يعاينه كل أحد؛ فلهذا لا تجوز الشَّهادة عليها بالتَّسامع، ثم الأحكام التي تتعلق بهذه الأشياء الأربعة تبقى بعد القضاء قروناً، فلو لم تُجوز الشَّهادة عليها بالتَّسامع؛ لتعطلت الأحكام بانقضاء تلك القرون؛ ولهذا قلنا في الصَّحيح في الجواب: إن الشَّهادة على أصل الوقف بالتَّسامع جائزة؛ ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشَّهادة بالتَّسامع؛ لأنَّ أصل الوقف يشتهر.


(١) سورة الإسراء: آية ٣٦.
(٢) هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من أشهر القضاة في صدر الإسلام، عاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمع منه، ولي القضاء الكوفة في زمن عمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، واستعفي في أيام الحجاج فأعفاه سنة ٧٧ هـ كان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، مات بالكوفة سنة ٧٨ هـ.
يُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (٥/ ٤٩)، وفيات الأعيان (٢/ ٤٦٠)، الإصابة (٣/ ٢٧٠).
(٣) في «ج»: [واحد].