للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: أما الحديث المعروف ففيه أن الفصل ببينة المدعي إن وجدت أو بيمين المنكر إن وجدت وإن عدمتا فلا ذكر له فوجب طلب الفاصل بالرأي.

وأمّا اللعان (١) فإن كلمات اللعان شهادات عندنا (٢) مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حدّ القذف فكان معنى اليمين فيها غير مقصود وقد مرّ ولأن معنى اليمين في اللعان قائم مقام الحد وجب أصالة لا خلفاً فلا يمكن الإيفاء إلا بكلمات اللعان.

وأمّا اليمين هاهنا صارت حقاً للمدعي إذا عدمت البينة وليست بأصل لأنه لا يدعيها فثبت أنه خلف عن أصل والأصل ما ادّعاه من المال وإذا كان كذلك لم يمكن قياس هذا عليه وكذلك اليمين في دعوى القصاص يثبت بطريق الأصالة لأن الْمُدَّعَى عليه لو قال إني لا أعرف ما تقول ولا أنازعك فيما تدعي لم يمكِّنه القاضي من القتل بعصمة أوجبها الله تعالى حقاً للآدمي عن التناول إلا بذنب بخلاف المال فإن ذا اليد لو قال إني لا أعرف ما تقول ولكني لست بمنازع إياك على أخذك مكن (٣) القاضي المدّعي من أخذه فثبت أن اليمين في دعوى القصاص لم تجب خلفاً عن حق له في القتل ولكن وجب أصلاً للمدّعي بنفس الدَّعْوَى بلا بينة تعظيماً لأمر الدماء كما في قتيل المحلّة (٤) يجب القسامة مع الدّية ولما وجب أصلاً لم يمكن الإيفاء إلا بها عينها فيحبس حتى يحلف لما لم يجز فيه النيابة وهذا كما قلنا في مانع الزكاة أن القاضي يحبسه حتى يؤدي ولا يأخذ بنفسه لأن الزكاة لا تتأدى بمثله.

وأما ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه حلّف المدّعي فكان ذلك بناء على مذهبه لأنّه كان يحلف المدعي مع تمام حجة (٥) القضاء بالبينة ولسنا نأخذ بذلك ثُمَّ مذهبنا أيضاً مؤيد بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- وروي عن علي -رضي الله عنه- أيضاً موافقة الإجماع فإنه روى عن شُرَيِح -رضي الله عنه- (٦) أن المنكر طلب منه ردّ اليمين إلى المدّعي فقال: ليس لك إليه سبيل فقضى بالنكول بين يدي عليّ فقال له علي -رضي الله عنه-: قالون وهي بلغة الرومية أصبت (٧).


(١) يُنْظَر: التعريفات للجرجاني (١/ ٢٤٦).
(٢) يُنْظَر: البحر الرائق (٤/ ١٢٢).
(٣) في (ب) (مكنت).
(٤) قتيل المحلة: المقتول الذي وجد في الدار أو الموضع الذي يقرب من المصر بحيث يسمع الصوت منه. يُنْظَر: الفتاوى الهندية (٦/ ٧٧).
(٥) في (أ) (الحجة).
(٦) أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، الكوفي، ويقال: شريح بن شرحبيل، أو شراحيل، أدرك النبي -رحمه الله-، ولم يلقه، وروى عن كبار الصحابة؛ كعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود -رضي الله عنهم-، وروى عنه النخعي، والشعبي، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن سيرين، ولاَّه عمر بن الخطاب قضاء الكوفة، وأقره علي بن أبي طالب عليها، وولي قضاء البصرة سنة، ومكث في القضاء ستين سنة، واستعفى الحجاجَ بنَ يوسف من القضاء فأعفاه، وكان من أعلم الناس في زمانه بالقضاء، وكان فقيهاً، ذا فطنة وذكاء، توفي سنة ثمانٍ وسبعين من الهجرة.
يُنْظَر: طبقات الفقهاء (٨٠)، تهذيب الكمال (١٢/ ٤٣٥)، سير أعلام النبلاء (٤/ ١٠٠).
(٧) أخرجه البيهقي في السنن الصغرى، عن الشعبي برقم (٢٧٨٦)، باب تصديق المرأه فيما يمكن فيه انقضاء عدتها، (٦/ ٤٣٩) وفي سنن الدارمي، برقم (٩٢٧)، باب الطهر كيف هو، (١/ ٢٦٠)، وفي فتح الباري لابن حجر قوله: باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض (١/ ٤٢٥).