للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا وجب قبول البينة فلا يخلوا إما أن يدّعي أنه أودعه رجل معروف بنسبه ويقيم البينة بذلك أو يدّعي أنه أودعه رجل مجهول ويقيم البينة به أو يقيم البينة أنّه أودعه رجل يعرفون وجهه ولا يعرفون نسبه أما في الفصل الأول فالشهادة مقبولة؛ لأنهم أحالوا/ الخصومة إلى معروف يصح طلبه ولا يُشكل أنّه غير المدّعي وفي الفصل الثاني لا يقبل بالإجماع وفي الفصل الثالث يقبل عند أَبِي حَنِيفَةَ وأبي يُوسُف (١) ولا يقبل عند مُحَمَّد (٢) -رحمه الله- وحاصله أن مُحَمَّدا اعتبر في هذه المسائل جهة الحوالة إلى معروف لا يتعطّل به حق المدّعي واعتبر أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُف جهة الدفع لا غيركذا ذكره فخر الإسلام -رحمه الله-[في الجامع] (٣) (٤).

وقوله: (أودعه رجل لا نعرفه) أي: أصلاً لا باسمه ولا بنسبه ولا بوجهه وفي المسألة الأولى: يعرفونه بوجهه واسمه ونسبه (فكذلك الجواب عند مُحَمَّد (-رحمه الله- أي: لا تندفع الخصومة عنه (للوجه الثاني) وهو قوله: (ولأَنَّه ما أحاله إلى معيّن) (٥).

وفي المَبْسُوط (٦) وجه قول مُحَمَّد -رحمه الله- أنّه أحاله على مجهول لا يمكنه اتباعه ليخاصمه فصار هذا بمنزلة قوله: أودعه رجل لا نعرفه وهذا لأنّ المعرفة بالوجه لا تكون معرفة على ما روي أن رسول الله -عليه السلام- قال لِرَجُلٍ: «أَتَعْرِفُ فُلَانًا» قال: نعم، فقال: «هل تَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ» فقال: لا قال: «إذًا لَا تَعْرِفُهُ» (٧) ومن حلف لا يعرف فلاناً وهو يعرف وجهه ولم يعرف اسمه و [لا] (٨) نسبه لا يحنث وأبو حَنِيفَةَ -رحمه الله- (٩) قال قد أثبت [ببينته] (١٠) أنه ليس بخصم لهذا المدّعي فإنا نعلم أن مودعه ليس هو المدّعي؛ لأنّ الشهود يعرفون [المودع] (١١) بوجهه ويقولون أنّه غير هذا المدّعي ومقصود ذي اليد إثبات أن يده يد حفظ وأنّه ليس بخصم لهذا الحاضر وهذه البينة كافية لهذا المقصود، ثُمَّ إن تضرّر المدّعِي بأن لا يقدر على اتباع خصمه فذلك الضرر يلحقة من قبل نفسه حيث نسي خصمه لا من جهة ذي اليد ونحن نسلم أنّ المعرفة بالوجه لا تكون معرفة تامة فإن كان الغائب لا يمكن استحضاره به ولكن ليس على ذي اليد تعريف خصم المدّعي إنّما عليه أن يثبت أنّه ليس بخصم وهذا كله بناء على أصلنا أنّ القضاء على الغائب بالبينة لا يجوز (١٢) فلابدّ من خصم حاضر للمدّعي ليقيم عليه البينة فأمّا عند الشَّافِعِيِّ (١٣) -رحمه الله- فالقضاء على الغائب بالبيّنة جائز وقد ذكرناه في كتاب القاضي إلى القاضي بخلاف الفصل الأول وهو ما إذا (قال الشهود أودعه رجل لا نعرفه) بوجهه (فلم تكن يده يد خصومة) أي: في هذا الفصل لم تكن يد المودع يد خصومة فيما إذا قال الشهود: (نعرفه بوجهه) والمدّعي هو الذي أضرّ بنفسه جواب عن قول مُحَمَّد -رحمه الله- وهو قوله: (فلو اندفعت لتضرّر به المدّعي) (١٤) (أو أضرّه شهوده) أي: شهود الْمُدَّعَى عليه وهو ذو اليد [ومن اشترى شيئاً فوجد في يد غيره وقبل أن ينقد الثمن لايكون له أن يأخذ من صاحب اليد إلا أن يدعي الْوَكَالَة بالقبض من البائع قَاضِي خَانْ -رحمه الله-] (١٥) (وقد ذكرنا الأقوال الخمسة) (١٦) أي: في هذا الفصل وترتيبه ذكر أولاً: قول ابن شبرمة ثُمَّ قول ابن أبي ليلى ثُمَّ قول أبي يُوسُف ثُمَّ قول مُحَمَّد ثُمَّ قول أَبِي حَنِيفَةَ -رحمهم الله-.


(١) يُنْظَر: الكافي شرح الوافي (٢/ ٦٢٢ - ٦٢٣).
(٢) يُنْظَر: العناية شرح الهداية؛ للبابرتي (٨/ ٢٥٣).
(٣) [ساقط] من (أ) و (ج).
(٤) يُنْظَر: الاختيار لتعليل المختار (٢/ ١٢٦).
(٥) يُنْظَر: الهداية شرح البداية (٣/ ١٦٧).
(٦) يُنْظَر: المبسوط؛ للسرخسي (١٧/ ٦٩).
(٧) لم أقف على هذا الحديث في شيء من دواوين السنة، ووجدت أثر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وله أكثر من طريق، وقد خرَّج الشيخ الألباني رحمه الله طريقاً لهذا الأثر ومالَ إلى تصحيحه؛ وكذلك صححه ابن السكن، بينما ضعف الأثرَ العقيليُّ في الضعفاء رقم (١٦٥٩):
قال العجلوني: قال عمر للذي كان يعرِّف عنده بعض الشهود: هل صحبته في السفر الذي يستدل له على مكارم الأخلاق فقال: لا قال ما أراك تعرفه انتهى.
ثم قال النجم أيضاً: ولأثر عمر تتمة؛ فعند أبي القاسم البغوي بإسناد حسن والخطيب في الكفاية وغيرهم عن خرشة بن أبحر قال شهد عند عمر بن الخطاب رجل شهادة؛ فقال له: لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك فأت بمن يعرفك. فقال رجلٌ من القوم: أنا أعرفه. فقال بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل. قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فمعاملك في الدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا.
قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك.
ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت بلفظ: أن عمر رأى رجلا يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا. قال أخالطته قال: لا. قال: والله الذي لا إله إلا هو ما تعرفه. يُنْظَر: إرواء الغليل (٨/ ٢٦٠)، كشف الخفاء (١/ ٥٤٩ - ٥٥٠)، الضعفاء الكبير، للعقيلي (٧/ ٢١٣).
(٨) [ساقط] من (ب).
(٩) يُنْظَر: الاختيار لتعليل المختار (٢/ ١٢٦)
(١٠) [ساقط] من (ج).
(١١) في (أ) (المدّعي).
(١٢) يُنْظَر: المبسوط؛ للسرخسي (١٧/ ٣٩).
(١٣) يُنْظَر: إعانة الطالبين (٤/ ٢٤٢)، الحاوي في فقه الشافعي (١٦/ ٣٠٣).
(١٤) يُنْظَر: الهداية شرح البداية (٣/ ١٦٧).
(١٥) [ساقط] من (ب) و (ج).
(١٦) يُنْظَر: الهداية شرح البداية (٣/ ١٦٨).