للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما روي من استعمال القرعة فقد كان في وقت كان القمار (١) مباحاً ثُمَّ انتسخ ذلك بحرمة القمار؛ لأنّ تعيين المستحق بمنزلة الاستحقاق ابتداءً، فكما أن تعليق الاستحقاق بخروج القرعة يكون قماراً فكذلك تعيين المستحق بخروج القرعة يكون قماراً أيضاً بخلاف قسمة المال المشترك فللقاضي هناك ولاية التعيين من غير قرعة وإنما يقرع تطييباً لقلوبهما ونفياً لتهمة [الميل] (٢) عن نفسه فلا يكون ذلك في معنى القمار.

وحديث علي -رضي الله عنه- يعارضه ما روي عن عمر وعلي -رضي الله عنه- في رجلين تنازعا في ولد أنهما قضيا بأنه ابنهما ولم/ يستعملا القرعة فيه، وقد كان علي -رضي الله عنه- استعمل القرعة في مثل هذه الحادثة واليمين في عهد رسول الله -عليه السلام- (٣) فدلّ أنّه عرف انتساخ ذلك الحكم بحرمة القمار والمعنى فيه أنهما استويا في سبب الاستحقاق والمُدَّعَى قابل للاشتراك فيستويان في الاستحقاق كالغريمين في التركة إذا كانت التركة بقدر حق أحدهما والموصي لهما كل واحد منهما بالثلث يقتسمان الثلث بينهما نصفين؛ وذلك لأن كل واحد من البينتين احتملت الصحة، فإنّ صحة أداء الشهادة لا تعتمد وجود الملك حقيقة إذ لا علم للعباد بحقائق الأمور، وإنما تعتمد ظاهر الحال فإنّ من رأى شيئاً في يد غيره حلّ له أداء الشهادة بالملك بناء على الظاهر فإذا عاين أحدهما بسبب الملك كالشراء أو ما أشبه ذلك جاز له أيضاً أداء الشهادة، وإذا صحت البينتان نقول قد أمكن العمل بهما في حق المحل؛ لأنّ الملك في المحلّ مما يقبل الوصف بالتجزيء؛ فقضينا لكل واحد بالنصف وصار هذا على مثال العلل الشرعية نحو: أن باع فضولي مال إنسان وباع فضولي آخر من آخر وأجاز المالك البيعين ثبت الملك لكل واحد في النصف كذلك هاهنا بخلاف ملك النكاح فإنّه لا يحتمل الاشتراك.


(١) القمار: أن يأخذ من صاحبه شيئا فشيئا في اللعب وفي لعب زماننا كل لعب يشترط فيه غالبا من المتغالبين شيئا من المغلوب، يقال: تقمر فلان، أي غلب من يقامره. يُنْظَر: الصِّحَاح؛ للجوهري (٢/ ٣٦٣).
(٢) في (ج) (اليد).
(٣) أخرجه البيهقي في الكبرى، كتاب الدعوى والبينات، باب من قال يقرع بينهما إذا لم يكن قافة، برقم (٢١٨١٨)، (١٠/ ٢٦٧)، وأبو داود، كتاب الطلاق، باب من قال بالقرعة إذا تنازعوا في الولد، برقم (٢٢٦٣)، (٣/ ١٠٦)، بلفظ (عن زيد بن أرقم قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا -رضي الله عنه- يختصمون إليه في ولد وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال للاثنين منهما طيبا بالولد لهذا فغلبا ثم قال للاثنين طيبا بالولد لهذا فغلبا فقال أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أضراسه أو قال نواجذه)، ورواه ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب القضاء بالقرعة، برقم (٢٣٤٨)، (٤/ ٣٠)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطلاق، باب القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه، برقم (٣٤٩٠)، (٦/ ١٨٣)، وقال في الكبرى (٣/ ٣٨٠) بعد ذكر روايات الحديث: هذه الأحاديث كلها مضطربة الأسانيد، وقال في الصغرى (٦/ ١٨٤) بعد الرواية التي ليس فيها زيد بن أرقم، وليست مرفوعة: هذا صواب، وصححه الألباني، يُنْظَر: صحيح سنن ابن ماجه (٢/ ٢٥٩).