للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْبَلْوَى لَا تُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَلْوَى فِي بَوْلِ الْحِمَارِ؛ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ يَتَرَشَّشُ؛ فَتُصِيبُ (١) الثِّيَابَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُعْفَى عَنْهُ أَكْثَرُ (٢) مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْبَلْوَى لِلْآدَمِيِّ، فِي بَوْلِهِ أَكْثَرُ (٣)، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُعْفَى عَنْهُ أَكْثَرُ (٤) مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ (٥)، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ؛ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا غَلِيظَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا (٦) لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، كَانَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ.

فَإِنْ قِيلَ (٧): إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: بِخِفَّةِ نَجَاسَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْبَلْوَى (٨) مَعَ وُرُودِ النَّصِّ بِنَجَاسَتِهِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهوا الْبَوْلَ» (٩).

قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ (١٠) بِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ (١١) لَا بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ، وَالْبَلْوَى حَتَّى قَالَ (١٢) فِي الْكِتَابِ، وأما عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ التَّخْفِيفُ؛ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ (١٣) ثُمَّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ بَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَبَيْنَ رَوْثِهِ؛ فَأَثْبَتَا (١٤) الْخِفَّةَ فِي الرَّوْثِ، وَلَمْ يُثْبِتَاهَا فِي حَقِّ الْبَوْلِ (١٥)، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الرَّوْثِ (١٦)، وَذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّوَابِّ مَتَى سَيَّرَهَا (١٧) رُبَّمَا يَغْفَلُ عَنْهَا، فَيُصِيبُهُ رَوْثُهَا مِنْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعَهَا، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْبَوْلِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تُنَشِّفُهَا (١٨).


(١) في (ب): (فيصيب).
(٢) في (ب): (أكبر).
(٣) في (ب): (أكبر منه).
(٤) في (ب): (أكبر). لم يذكر (أكثر) فقد قال: (ومع ذلك لا يعفى عنه من قدر الدرهم) ينظر: "المبسوط" للسرخسي (١/ ٦١).
(٥) ينظر: "المبسوط" للسرخسي (١/ ٦١).
(٦) (لما)، ساقطة من (ب).
(٧) في (ب): (فإن قلت).
(٨) ينظر: " الآثار" لأبي يوسف (١/ ١٠)، و"المبسوط" لمحمد بن الحسن (١/ ٣٨)، و"المبسوط" للسرخسي (١/ ٦١)، "بدائع الصنائع للكاساني" (١/ ٧٥).
(٩) أخرجه الدارقطني في "سننه" (١/ ٢٣٢) كتاب "الطهارة"، باب " نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه" حديث رقم (٤٦٤)، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» قال الدارقطني في "سننه" (١/ ٢٣٢): الصواب مرسل، وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (٢/ ٣٢٣): صحيح. وفي (ب): (استنزهوا من البول).
(١٠) في (ب): (أبو حنيفة ذلك).
(١١) يشير إلي حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ، «أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فاجتووها، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فصحوا ثم مالوا على الرعاة، فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا» أخرجه مسلم في "صحيحه" (ص ٦٩١) في كتاب "القسامة والمحاربين"، باب "حكم المحاربين والمرتدين" حديث رقم (١٦٧١). فاجتووها: أي أصابهم الجوى: وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير": (١/ ٣١٨)، مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار؛ لابن طاهر الصديقي: (١/ ٤١٧)
سمل أعينهم: أي فقأها بحديده محماة أو غيرها، أو قلعها، وفعل ذلك بهم لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، وقيل هو قبل نزول الحدود فلما نزلت نهى عن المُثلة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير: (٢/ ٤٠٣)، مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار؛ لابن طاهر الصديقي: (٣/ ١٢٢)، المغرب في ترتيب المعرب؛ للمطريزي: (١/ ٤١٦)
(١٢) أي: صاحب الهداية.
(١٣) ينظر: "الهداية في شرح بداية المبتدي للمرغيناني" ١/ ٣٨).
(١٤) في (ب): (فاثبتنا).
(١٥) ينظر: "بدائع الصنائع للكاساني" (١/ ٨١).
(١٦) (في الروث)، ساقطة من (ب).
(١٧) في (ب): (حين سيره).
(١٨) في (ب): (تنشفه).