للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فإن قلت: لو كان الامتناع لحقهم لكان ينبغي أن يجوز فيما دون الثلثين أجازوا أم لم يجيزوا كما في الوصية للأجنبي؛ لأنه لا حق لهم في الثلث على … ما مر.

قلتُ: معنى قوله لأن الامتناع لحقهم أي الامتناع لتأذيهم أي قلنا بالامتناع لمراعاة حقهم لكيلا يتأذوا بإيثار البعض على البعض، فإذا رضوا انعدم التأذي فيجوز، ولأن جواز الوصية في أصله مخالف للقياس؛ لأن الوصية تمليك مضاف إلى حال زوال المالكية إلا أنَّا جوزناه بالاستحسان لحاجة الميت إليه ليتدارك بعض (١) ما فرط فيما يجب عليه من العبادات، ولا حاجة إلى الوصية للورثة؛ لأن التركة حقهم سواء أوصى بها لهم أو لم يوص، وتولى الله تعالى بيان حقوقهم بحدودها.

ويجوز أن يوصي المسلم للكافر والكافر للمسلم إلى آخره (٢)؛ هذا لبيان الفرق بين الوصية والميراث، فإن الإرث لا يجري مع اختلاف الدين؛ لأن الإرث طريقه طريق الولاية والخلافة على معنى أنه يبقى للوارث المال الذي كان للمورث واختلاف الدين يقطع الولاية.

فأما الوصية فتمليك بعقد مبتدأ ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب ولا يصير مغرورًا فيما اشتراه الموصي بخلاف الوارث كذا في المبسوط.

الوصية لأهل الحرب (٣) (٤)


(١) في (ج): بعد، وما أثبت من (أ) و (ب) هو الصواب.
(٢) (وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ). فَالْأُولَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: ٨] الْآيَةَ. وَالثَّانِي لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ. ينظر: الهداية (٤/ ٥١٤)، العناية (١٠/ ٤٢٦)، البناية (١٣/ ٣٩٩، ٤٠٠).
(٣) أهل الحرب: العدو الكافر الذي ليس بينه وبين المسلمين عهد ولا ذمة، وهم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمة، ولا يتمتعون بأمان المسلمين ولا عهدهم. ينظر: معجم لغة الفقهاء (٩٥)، فتح القدير ٤/ ٢٧٨، ٢٨٤، الفتاوى الهندية ٢/ ١٧٤، مواهب الجليل ٣/ ٣٤٦ - ٣٥٠.
(٤) اختلفت آراء الفقهاء في ذلك: الرأي الأول: تصح وصية المسلم أو الذمي للمستأمن لا الحربي وبالعكس، فإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان تصح وصية المسلم أو الذمي له، كما تصح وصيته للمسلم أو الذمي، أما الحربي في دار الحرب، فلا تصح وصية المسلم أو الذمي له، كما لا تصح وصيته لهما، وهو رأي معظم الحنفية، والمعتمد في المذهب المالكي، وقول للشافعية والحنابلة والثوري والظاهرية والإمامية والزيدية.
قال الكاساني: "وكذا الحربي المستأمن إذا أوصى للمسلم أو الذمي تصح وصيته".
ينظر: انظر بدائع الصنائع ج ٧ ص ٣٣٥، المصنف لابن أبي شيبة، ج ١١ ص ٢٣١، رقم ١١٠٧٦، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج ٤ ص ٣٧٩، المهذب وشرحه المجموع ج ١٤ ص ٣٢٦، الإنصاف ج ٧ ص ٢٢٢.
الرأي الثاني: وقال محمد الشيباني: "ووصية المسلم أو الذمي لحربي في دار الحرب لا تكون صحيحة".
وعلق على ذلك صاحب الكفاية: فقال: "لو أوصى الذمي في دار الإسلام لحربي في دار الحرب لم يجز؛ لتباين الدارين بينهما، حقيقة وحكمًا".
وأوضح ذلك ابن الهمام بقوله: "لو أوصى مسلم لحربي والحربي في دار الحرب لا تجوز، فإن خرج الحربي الموصى له إلى دار الإسلام بأمان وأراد أخذ وصيته لم يكن له من ذلك شيء، وإن أجازت الورثة؛ لأن الوصية وقعت بصفة البطلان".
وبقوله: "فإن احترز عن حربي ليس في دارهم، وهو المستأمن، فإن الحربي ما دام في دار الحرب ممن يقاتلنا بخلاف المستأمن؛ فإنه ليس كذلك".
وأوضح الخرشي المالكي بعدما تكلم عن صحة الوصية للذمي ما يحتمل بالنسبة للحربي، فقال: "قال في التوضيح: يحتمل اعتبار المفهوم فيمنع للحربي، ولا يصح له وهو قول أَصبَغ، ويحتمل أن لا يكون مفهوم مخالفة المساواة المسكوت عنه للمنطوق، وهو مقتضى كلام عبد الوهاب في الإشراف".
ثم علق على ذلك الشيخ العدوي: بأن قول أصبغ بعدم صحة الوصية للحربي هو المعتمد، وكلام عبد الوهاب ضعيف".
وقال بعض الشافعية مثل أبي العباس القاص وابن سراقة: "إنه لا يصح الوصية لأهل الحرب".
ينظر: شرح السير الكبير ج ٥ ص ٢٠٤٦، الكفاية ج ٦ ص ٤١٩، شرح فتح القدير ج ٩ ص ٣٥٥ - ٣٥٦، التاج والإكليل ج ٦ ص ٢٤، المهذب وشرحه ج ١٤ ص ٣٢٣، ص ٣٢٦، نهاية المحتاج ج ٦ ص ٤٨.