للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وجه قول علمائنا أن هذا تمليك المال بالعقد فلا يثبت إلا بالقبول أو بما يقوم مقامه كالتمليك بسائر العقود؛ وهذا لأن أحدًا لا يملك تتميم سبب الملك لغيره بغير رضاه بخلاف الميراث فإنه يبقي للوارث الملك الذي كان ثابتًا للمورث حتى يرده بالعيب ويصير مغرورًا فيما اشتراه المورث، والبقاء لا يستدعي سببًا مبتدًا لأن الملك في الميراث ثبت شرعًا من غير اختيار من المورث.

ألا ترى أنه لو أراد أن يمنعه لا يتمكن من ذلك والمشروع (١) هذه الولاية.

وأما هنا فالملك ثبت بإيجاب الموصي بدليل أن له أن يمنعه عن ذلك بالرجوع (٢) عن الوصية قبل موته فلا يثبت إلا بقبول من الموصى له لانعدام ولاية الموصي عليه؛ ولأن تنفيذ الوصية لمنفعة الموصى له، ولو أثبتنا الملك له قبل موته تضرر، عسى أنه لو أوصى له بعبدٍ أعمى يجب عليه نفقته إذا ثبت الملك له، ولو أوصى بدنان مكسرة أو بزبل اجتمع في داره، لو ثبت الملك له بغير قبوله وجب عليه نقلها شاء أو أَبَى، وفي هذا من الضرر عليه ما لا يخفى، وكذلك لو أوصى له بزوجته المملوكة لو ملكها الموصى له بدون قبوله يفسد نكاحه، وليس للموصي ولاية إفساد نكاحه؛ فلهذا قلنا إنه لا يثبت له الملك ما لم يقبل، كذا في المبسوط (٣).

إلا في مسألة واحدة أي يملك بدون القبول.

ومن أوصى وعليه دين يحيط بماله لم تجز الوصية؛ لأن الدين مقدم على الوصية أي في حكم الشرع، وأما في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (٤)، فالوصية مقدمة على الدين [ذكرًا] (٥) كما ترى.

فإن قلت: لم قدمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة.

قلتُ: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثًا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين؛ ولذلك جيء بكلمة أو للتسوية بينهما في الوجوب، هكذا ذكر السؤال والجواب في الكشاف.

وذكر في المبسوط، قال علي ط: «إنكم تقرءون الوصية قبل الدين وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدأ بالدين قبل الوصية» (٦)، وهكذا نقل عن ابن عباس ط، فهذا منهما إشارة إلى معنى التقديم والتأخير في الآية، ثم قضاء الدين من أصول حوائج المرء؛ لأنه تفرغ به ذمته، فالوصية ليست من أصول حوائجه وحاجته مقدمة في تركته.


(١) في (ب): وللتبرع، وما أثبت من (أ) و (ج) هو الصواب.
(٢) في (ب): والرجوع، وما أثبت من (أ) و (ج) هو الصواب.
(٣) ينظر: المبسوط (٢٨/ ٤٨).
(٤) سورة النساء: ١١.
(٥) ساقطة من (ج)؛، وإثباتها من (أ) و (ب) هو الصواب.
(٦) أخرجه الدارقطني في (سننه) كتاب الفرائض (٥/ ١٥٣ رقم الحديث: ٤١٢٤)، ونصه: عن علي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أنتم تقرأون الوصية قبل الدين، وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن الدين قبل الوصية، وأعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات»، وابن ماجه في (سننه) كتاب الوصايا باب الدين قبل الوصية، (٢/ ٩٠٦ رقم الحديث: ٢٧١٥)، والترمذي في (سننه) كتاب أبواب الوصايا باب ما جاء يبدأ بالدين قبل الوصية، (٤/ ٤٣٥ رقم الحديث: ٢١٢٢). وقال الألباني في (إرواء الغليل) (٦/ ١٠٧): حسن.