للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإذا كنا (١) لا يمنع من الدخول في المسجد الحرام، ففي سائر المساجد أولى، وكان المتقدمون يكرهون شد (٢) المصاحف، واتخاذ المشدة (٣) لها؛ لكيلا يكون ذلك في صورة المنع من قراءة القرآن، فهذا مثله أو فوقه؛ لأن المصحف ملك لصاحبه، والمسجد ليس بملك لأحد، ولكن قالوا: لا بأس في زماننا بإغلاق باب المسجد، ولا تفتح إلا في أوقات الصلاة، والتدبير في ذلك إلى أهلها؛ لأن الغلبة لأهل الفساد ويخاف منهم على متاع المسجد، وعلى منازل الجيران بالليل، وجاز أن يختلف الحكم باختلاف أحوال الناس ألا ترى أن النساء كن يحضرن الجماعات، ثم منعن من ذلك، فكان المنع صوابًا، فكذلك إغلاق باب المسجد في زماننا والتدبير فيه إلى أهل المحلة، فإنهم إذا اجتمعوا على رجل وجعلوه متوليًا بغير أمر القاضي يكون متوليًا، وقيل: إذا تقارب الوقتان كالعصر والمغرب والعشاء لا تغلق، وبعد العشاء إلى طلوع الفجر، ومن طلوع الشمس إلى الزوال تغلق. كذا ذكره الإمام السرخسي، وقاضي خان، والمحبوبي، والتمرتاشي رحمهم الله (٤).

ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجصّ والساج، وإنما ذكر هذه المسألة بهذه العبارة لما أن الناس مختلفون فيها، فإن من الناس من استحسن ذلك، ومنهم من كرهه (٥). وقال شمس الأئمة رحمه الله: في قوله: لا بأس إشارة إلى أنه لا يؤخذ بذلك، ويكفيه أن ينجو رأسًا برأس، وهذا لأن النبي عليه السلام لما قيل له: ألا نهدُّ مسجدك ثم نبنيه؟ قال: «لا عرش كعرش موسى»، أو قال: «عرش كعرش موسى» (٦)، وكان سقف مسجده من الجريد، وكان نكفّ إذا مطر حتى قال أبو سعيد الخدري رض: رأيته سجد في ماء وطين (٧)؛ لأن النبي عليه السلام عدّ ذلك من أشراط الساعة قال: «تزخرف المساجد، ويطول المنارات» (٨)، وعلي رضي الله عنه قال حين مر بمسجد مزخرف: لمن هذه البيعة (٩)، وإنما قال –أي: علي- لكراهة هذا الصنيع في المساجد. ولما بعث الوليد بن عبد الملك (١٠) أربعين ألف دينار ليزين بها مسجد رسول الله عليه السلام، فمر بها على عمر بن عبد العزيز (١١) فقال: المساكين أحوج إلى هذا المال من الأساطين (١٢)، وعندنا لا بأس بذلك لما روي أن داود عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس، ثم أتمه سليمان صلوات الله عليهما بعده فزينه حتى نصب الكبريت الأحمر على رأس القبة، وكان ذلك أعز ما يؤخذ في ذلك الوقت، فكان يضيء من ميل وكن الغزالات يغزلن بضوئها في الليالي (١٣). (١٤).


(١) في (ب): كان بدل من كنا.
(٢) في (ب): سد.
(٣) في (ب): المسدة.
(٤) يُنْظَر: العناية شرح الهداية: ١/ ٤٢١، والجامع الصغير وشرحه النافع: ١/ ١٢١، وتبيين الحقائق: ١/ ١٦٨.
(٥) يُنْظَر: العناية شرح الهداية: ١/ ٤٢١.
(٦) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (٣١٦٢ – ١/ ٣٠٩)، والبيهقي في السنن الكبر ى (٤٠٩٩ – ٢/ ٤٣٩). قال البيهقي: من مرسل سالم بن عطية عرش كعرش موسى ورواه الدارقطني في الأفراد والديلمي وابن النجار من حديث أبي الدرداء عريشاً كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك قال الدارقطني غريب. قال ابن السبكي: (٦/ ٣٥٥) لم أجد له إسناداً. انظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (٥/ ٢٠٧٥).
(٧) رواه البخاري في صحيحه (١٩٢٣)، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر. ومسلم في صحيحه (١١٦٧)، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال.
(٨) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠٥٥٦ – ١٠/ ٢٢٨) مطولًا.
(٩) يُنْظَر: المحيط البرهاني: ٥/ ١٤٦.
(١٠) هو: الوليد بن عبد الملك بن مروان، أبو العباس: من ملوك الدولة الأموية في الشام. ولد سنة ٤٨ هـ. ولي بعد وفاة أبيه فوجه القواد لفتح البلاد، وامتدت في زمنه حدود الدولة العربية إلى بلاد الهند، فتركستان، فأطراف الصين، شرقا، وكان ولوعا بالبناء والعمران، وفاته بدير مران سنة ٩٦ هـ ودفن بدمشق.
(تهذيب التهذيب: ٦/ ٤٢٢)، و (ميزان الاعتدال: ٢/ ١٥٣)، و (الأعلام للزركلي: ٨/ ١٢١).
(١١) هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي القرشي، أبو حفص: الخليفة الصالح، والملك العادل، وربما قيل له خامس الخلفاء الراشدين تشبيها له بهم. ولد بالمدينة سنة ٦١ هـ ونشأ بها، وولي إمارتها للوليد. ثم استوزره سليمان ابن عبد الملك بالشام. وولي الخلافة بعهد من سليمان سنة ٩٩ هـ، فبويع في مسجد دمشق. وأخباره في عدله وحسن سياسته كثيرة. وكان يدعى "أشج بني أمية" رمحته دابة وهو غلام فشجته. توفي سنة ١٠١ هـ.
(ثقات ابن حبان: ٥/ ١٥١)، و (التاريخ الكبير: ٦/ ١٧٤)، و (تهذيب الكمال: ٢١/ ٤٣٢).
(١٢) يُنْظَر: مبسوط السرخسي: ٣١/ ٨.
(١٣) يُنْظَر: تفسير روح البيان: ٣/ ٣٠٣.
(١٤) يُنْظَر: المَبْسُوط للِسَّرَخْسِي: ٣١/ ٧، ٨.