للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والأصل: أن الحكيم متى حكى عن غير الحكيم ولم يُعقبه بالنكير كان دليلًا على أنه صواب، ففيه دليل على أنّ [ابن] (١) آدم مأمور بالسجود، والأمر للوجوب، ولأنّ الله تعالى وبّخ من ترك السجود بقوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)} (٢)، والتوبيخ لا يكون إلا بترك الواجب، ولأن آيات السجدة كلها دالة على الوجوب؛ لأنّها ثلاثة أقسام:

قسم [هو] (٣) أمر صريحًا مثل التي في العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (٤)، والأمر للوجوب.

ومنها: ما فيه ذكر طاعة الأنبياء، والمرسلين، والأولياء، وذلك يوجب الاقتداء؛ لقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (٥).

والثالث: ذكر ما فيه استنكاف الكفار، ومخالفتهم في ذلك واجبة، والمعنى: أنها سجدة يؤتى بها في الصلاة، فكانت واجبة قياسًا على الصلبية؛ وهذا لأنها ليست من نفس الصلاة، ولكنها زائدة، ولم يجب في الصلاة زيادة سجدة نفلًا، فكانت واجبة، ولأنّ صيانة الصلاة عن خلط ما ليس منها واجبة، ولو كانت نفلًا؛ لكانت الصيانة الواجبة أولى من فعل ما هو سنّة، فدلّ الفعل على أنّها أوجب من الصيانة.

والجواب عن الحديث الأوّل: أنه لم يسجد في فوره ذلك، وهو جائز عندنا، أو كانت القراءة مكررة، والراوي لم يشعر بالمرة الأولى؛ لأنّ السامع إنما يلزمه السجود على الفور إذا سجد التالي، ألا ترى أنه قال: لو سجدت لسجدنا، وهذا يدلّ على سجدته لو سجد لا محالة، وعندكم لو سجدها التالي يخيّر السّامع أيضًا، فكان حجة عليكم.

والجواب عن قول عمر - رضي الله عنه -: «لم يُكتب علينا التعجيل بها» (٦)، فأراد أن يُبيّن للقوم جواز التأخير في حالة الوجوب، فكان فيه بيان جواز التأخير.

فإن قلت: التعلق بصيغة الأمر في حق وجوب سجدة التلاوة مما لا يكاد يصح؛ لأنه حينئذ يكون الشيء الواحد سببًا للشغل؛ والتفريغ؛ وبينهما مضادة ما عهدت أسباب المشروعات، كذلك إذ بالأسباب يثبت شغل الذمة بالوجوب؛ وبالأوامر يثبت وجوب الأداء الذي هو عبارة عن طلب تفريغ عمّا وجب عليها بسبب قبلها، كما في قولك: أداء الثمن للشراء، أي: الثمن الذي وجب عليك بسبب قبل هذا، وهو الشراء، فكيف يكون الشيء الواحد طالبًا حال كونه شاغلًا في حالة واحدة؟


(١) [ساقط] من (ب).
(٢) سورة الانشقاق الآيتان: (٢٠ - ٢١).
(٣) [ساقط] من (ب).
(٤) سورة العلق الآية: (١).
(٥) سورة الأنعام من الآية: (٩٠).
(٦) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/ ٢٨٨ - رقم ٧٠١)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٣/ ٢١٣ - رقم ٥٥٨٧) من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه. قال ابن الملقن في (البدر المنير: ٤/ ٢٧٩): أثر صحيح.