للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله: (وقال الشافعي -رحمه الله- سفر المعصية لا يفيد الرخصة) (١)، وذلك كمن سافر بنيّة قطع الطريق، أو البغي على الإمام العدل، وكذلك المرأة إذا حجت من غير محرم، والعبد إذا أبق من مولاه، وعندنا يترخّص هؤلاء بُرخص المسافرين، وغيرها من قصر الصلاة، وإباحة الإفطار، وجواز الصلاة المكتوبة على الراحلة إذا أفاق، وجواز استكمال مدّة المسح على الخفين، وجواز أكل الميتة عند الضرورة.

احتج الشافعي بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (٢)، (٣) ولأنه لما سافر للبغي، أو القطع صار ابتداء خروجه معصية؛ لأنه نوى معصية، وهي التي أخرجته، فصارت المعصية مضافة إلى السّفر كحكمه، والمعاصي لا تصير اعتذار لإثبات الرخص، ألا ترى أن زوال العقل عذرًا لإسقاط ضرورة الخطاب، ومتى كان بسبب السكر لم يسقط به خطاب، وكذلك خوف العدو عذر لإقامة صلاة الخوف، وقطاع الطريق متى خافوا إمام العدل لم يُحل لهم صلاة الخوف؛ لأنّهم خافوا بسبب هو معصية، ويعتبر هذا الخروج بضدّه، فإن من خرج للحج صار ابتداء خروجه طاعةً، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (٤)، ففي ضدّه إذا خرج إلى معصية يصير الخروج معصية، وللمعاصي لا تثبت الرخص كما ذكرنا، ولنا قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (٥)، (٦) علق رخصة الإفطار بنفس السّفر، فزيادة قيدان لا يكون باغيًا، أو قاطع طريق يجري مجرى النسخ على ما عرف، وكذلك قوله تعالى في إباحة الميتة: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (٧).


(١) ينظر: الهداية شرح البداية: ١/ ٨١.
(٢) سورة البقرة من الآية: (١٧٣)، سورة الأنعام من الآية: (١٤٥)، سورة النحل من الآية: (١١٥).
(٣) قال القرطبي: (والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الإباحة، واللّه أعلم) ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ٢/ ٢٣٣، ٢٣٤.
(٤) سورة النساء من الآية: (١٠٠).
(٥) سورة البقرة من الآية: (١٨٤).
(٦) قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن: ٥/ ٣٤٩): قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين: هربا وطلبا؛ فالأول ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام .. الثاني: الخروج من أرض البدعة .... الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. الرابع: الفرار من الأذية في البدن؛ وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور. وأول من فعله إبراهيم عليه السلام؛ فإنه لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}، وقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}. وقال مخبرًا عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة. وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا. وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيانه في "البقرة". بيد أن علماءنا قالوا: هو مكروه. السادس: الفرار خوف الأذية في المال؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد. وأما قسم الطلب فينقسم قسمين: طلب دين وطلب دنيا.
(٧) سورة الأنعام من الآية: (١١٩).