للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولأبي حنيفة -رحمه الله- قوله -عليه السلام-: «ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد!» (١) فقد جعل أداء الشهادة قبل الاستشهاد من أمارات الكذب! فظاهره يقتضي أن لا يكون مقبولًا منه إلا حيث خُصَّ بدليل الإجماع. والمعنى فيه أنّه إزالة ملك اليمين بالقول، ولا يتضمّن معنى تحريم الفرج، فلا تقبل الشّهادة فيه إلا بالدّعوى كالبيع، وتأثيره أنّ المشهود به حق العبد؛ لأنّ الإعتاق إحداث قوّة المالكيّة والاستبداد فيتضمن انتفاء ذُلِّ المَملُوكِيَّة والرِّق، وذلك كله حقّ العبد، فأمّا ما وراء ذلك فمن ثمرات العتق فلا يعتبر ذلك، وإنّما يعتبر المشهود به.

وإذا كان حقًا للعبد يتوقف قبول البيّنة على دعواه، وَنَحن نُسَلِّمُ أنَّ في السَّبَب مَعنَى حَقِّ الشَّرعِ؛ ولِهذا لا يَتَوَقَّفُ على قَبُولِهِ، فلا يَرتَدُّ بِرَدِّهِ، ولكن هذا لا (٢) يدل على قبول البيّنة من غير الدّعوى، كالعفو عن القصاص ثمّ العبد غير متهم في هذا الإنكار؛ لأنَّ العَاقِلَ لا يَجحَدُ (٣) الْحُرِّيَّةَ لِيَسْتَكْسِبَهُ فَيُنفق عليه بعض كسبِهِ، وجعل الباقي لنفسه فصحّ إنكاره وصار به مُكَذِّبًا لِشُهُودِهِ، بخلاف الأمة، فإنّها مُتَّهَمَةٌ في الإنكار على ما قلنا، حتَّى لو كان العَبدُ مُتَّهَمًا بأن كان لزِمَهُ حَدُّ قَذفٍ أو قِصَاصٍ في طَرَفٍ فَأَنكر العتق، لم يلتفت إلى إنكاره، وقضى عليه ذلك بالبيّنة، وأمّا فصل التّناقض فالوجه الصّحيح فيه أن يُسلَكَ طَرِيقَةُ الشَّبَهَينِ: فيقول من حيث السّبب المشهود به حق الشّرع بمنزلة طلاق الزّوجة، وعتاق الأمة، ومن حيث الحكم المطلوب بالسّبب هو حق العبد كما بيّنا، وما تَرَدَّدَ بين الشَّبَهَيْنِ يُوَفِّرُ حظَّهُ عَلَيهِما فلِشِبهِهِ بِحُقُوقِ العِبَادِ.


(١) رَوَاه ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي خطبته وفيه: "ثم يفشوا الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ عَلَيْهَا، وَيَشْهَدَ عَلَى الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهَا … "، الحديث. أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (١٦/ ٢٣٩)، في كتاب التاريخ: باب فضل الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- باب أخباره -صلى الله عليه وسلم- عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، رقم (٧٢٥٤)، ورواه الامام أحمد (١/ ١٨)، مسند عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، رقم (١٧٧)، والترمذي (٤/ ٤٦٥)، أبواب الفتن، رقم (٣١) باب ما جاء في لزوم الجماعة، رقم (٧)، رقم الحديث (٢١٦٥)، وهو عند الحاكم في المستدرك (١/ ١٩٧)، كتاب العلم، رقم (٣٨٧)، والنسائي في "الكبرى" (٨/ ٢٨٤)، كتاب عشرة النساء، باب ذكر اختلاف الفاظ الناقلين لخبر عمر وفيه … ، رقم الحديث (٩١٧٧). حكم الألباني (صحيح).
انظر حديث رقم: (٢٠٦) في صحيح الجامع (١/ ١٠١)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (٣/ ١٠٩).
(٢) "لا" سقط من (أ) والصواب ما في (ب).
(٣) الجُحُودُ والجَحدُ: هو إنكارُ الشيء مع العلمِ بهِ.
انظر: كشَّاف اصطلاحات الفنون (١/ ٢٦٠)، المُنجِد في اللغة (٧٩)، (جحد).