رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالًا ثلاثًا اتخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هن؟ ، قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي كنتم تجدونه في كتابكم (١)، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذِه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالًا مصلتين السيوف،
(١) وقد كان اليهود يعرفون أنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء كما يعرفون أبناءهم، فإن صفة النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قد وردت في كتب الأنبياء، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية [الأعراف: ١٥٧] وقد بشر الأنبياء أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم، وكما روى أحمد في "المسند" ٥/ ٤١١ عن رجل من الإعراب قال: جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ " فقال برأسه: هكذا -أي: لا- فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فقال: "أقيموا اليهودي عن أخيكم" ثم تولى كفنه والصلاة عليه. وهو حديث قوي له شاهد عند البخاري في الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه (١٣٥٦) عن أنس، ومع ذلك لم يؤمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.