كانت إذا خرج سليمان عليه السلام من دارها تغدو عليه في ولائدها (١) حتى تسجد له ويسجدون له كما تصنع به في ملكه وتروح كل عشيةٍ بمثل ذلك، وسليمان عليه السلام لا يعلم شيئًا من ذلك أربعين صباحًا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صدّيقًا وكان لا يُرد عن باب سليمان، أي: ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضرًا كان سليمان أو غائبًا، فأتاه وقال: يا نبي الله كبرت سني ورق عظمي ونفِد عمري وقد حان مني ذهابٌ وقد أحببت أن أقدم مقامًا قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله فأُثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل.
فجمع له سليمان عليه السلام الناس، فقام فيهم خطيبًا فذكر من مضى من أنبياء الله فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضّله الله به حتى انتهى إلى سليمان عليه السلام فقال: ما كان أجملك في صغرك وأروعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحْكَمَ أمرك في صغرك وأبعدك من كل مكروه في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى تملّى غضبًا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم وعلى كل حالٍ من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري وكِبري فما الذي أحدثتُ في آخر عمري؟ ! قال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحًا في
(١) ولائِد جمع وليدة، وهم الإماء والخدم. "لسان العرب" لابن منظور ٣/ ٤٧٠ (ولد).