وفي تقديم العقاب على الرحمة دلالة على أن جانب الرحمة أغلب؛ لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما صح في الحديث، لذا قال تعالى:{وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}[المائدة ١٥/ ٥] وقد ذكر الله في هذه الآية أمام العقاب وصفين من أوصاف الرحمة، وهو كونه غفورا رحيما، قال الرازي: وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة (١).
وليس من وظيفة الرسول حمل الناس على الهداية والتوفيق للإيمان وإنما عليه التبليغ وأداء الرسالة، ثم يؤول أمر الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية إلى الله خالق الخلق الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يظهره الإنسان وما يكتمه في جوانح نفسه، فإذا بلّغ الرسول بقي الأمر من جانبكم.
وهذا وعيد شديد مؤكد لما سبق في الآية [٩٧]: {ذلِكَ لِتَعْلَمُوا} وتهديد لمن يخالف أوامر الله، وإبطال لمخاوف المشركين من معبوداتهم الباطلة.
ولما زجر الله تعالى عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله:{اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم أتبعه بالتكليف بقوله: {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله:
{وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: {قُلْ: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}.
فليس من الحكمة والعدل التسوية بين الجيد والرديء، وبين البر والفاجر، كما قال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ}[ص ٢٨/ ٣٨] وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ}[الجاثية ٢١/ ٤٥].