ثم قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ..}. مقرّرا لما سبق، ومعلّلا له، وهو أنّ من يضلّه الله فلا هادي له، أي أنّ من فقد الاستعداد للإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والعمل بالقرآن، فإن الله يتركه متردّدا في ضلاله، حائرا في سبيله، بسبب تجاوزه الحدّ في الظّلم والطّغيان والفجور، ولن يجد لنفسه هاديا أو مرشدا آخر غير الله.
وليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضّلال، بل المقصود أنهم لما تأصّل الكفر في قلوبهم، وأسرفوا في طغيانهم، فقدوا باختيارهم ما يدعوهم إلى الهدى والإيمان، وأصبحت نفوسهم غير متهيّئة لدعوة الحقّ، وخلقهم الله على هذا النحو الذي علمه منهم قبل إيجادهم فكانوا هم الضّالين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن أمة الدّعوة المحمّديّة، وجعلهم كغيرهم من أقوام الأنبياء فريقين: فريق المؤمنين المهتدين، وفريق الضّالين المكذّبين.
أما المهتدون فوصفهم الله بأنهم يرشدون الناس إلى الحق، ويقضون بالحق والعدل، وهذا كما وصف بعض قوم موسى بالوصفين ذاتهما، وفي ذلك غاية التّجرّد والموضوعيّة والحياد وإنصاف الحقائق.
ودلّت الآية-كما ذكر القرطبي-على أنّ الله عزّ وجلّ لا يخلّي الدّنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحقّ.
وأما المكذّبون بآيات الله وقرآنه وهم أهل مكة: فقد أخبر تعالى أنه سيستدرجهم بإدنائهم وتقريبهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، عن طريق إمدادهم بالنّعم والخيرات والأرزاق، كلما أتوا بجرم، أو أقدموا على ذنب.
وأنه سيطيل لهم المدّة، ويمهلهم مع إصرارهم على الكفر، ولا يعاجلهم