كل هذه الألوان من الاختلافات والاحتمالات لا نجدها في القرآن الكريم، مما يدل قطعا على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو قد أعجز ببلاغته وفصاحته وجزالته البلغاء والفصحاء، وصور الحقائق تصويرا تاما بلا اختلاف ولا تناقض، وأخبر عن الماضي السحيق خبرا صدقا موافقا للواقع، وتحدث عن الحاضر ومكنونات الأنفس والضمائر بما يبهر ويعجب ويخرس الألسنة الناقدة، وأنبأ عن بعض الأمور في المستقبل، فجاء الحدث مطابقا لما أنبأ عنه، ووضع أصول العقيدة، والتشريع في القضايا العامة والخاصة، وسياسة الأمم والحكم بما لم يسبق إليه، وبما تطابق مع أحدث وأصح ما توصلت إليه البشرية بعد مخاضات طويلة في مجال النظريات والفلسفات.
وصوّر لنا عالم الغيب ومشاهد القيامة بصور مرئية محسوسة كأننا نشاهدها وننجذب إليها وترتسم صورها في أذهاننا دون أن تفارقها لشدة وقعها، وبراعة تصويرها، وصدق حكايتها وواقعيتها:{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ}[الزمر ٢٣/ ٣٩].
ولو أنصف المسلمون أنفسهم ما اتخذوا هذا القرآن مهجورا، ولو تدبروا ما فيه وفهموا ما رسمه لهم من طريق الحياة السوية، لما انحدروا إلى ما هم عليه الآن، فهو مرشد الهداية، ونور الأمة، وصراط الله المستقيم، ومفتاح السعادة، وطريق تحقق المصلحة، وبناء الأمة وتحضرها، قال الله تعالى:{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}[الإسراء ٩/ ١٧].